الاحتلال فالتحرير ثم آفاق المستقبل

زاوية الكتاب

سعد بن طفلة يكتب سلسلة مقالات عن الغزو والتحرير ومستقبل العلاقات الكويتية-العراقية

كتب 1670 مشاهدات 0


كتب الدكتور سعد بن طفلة ثلاث مقالات نشرتها صحيفة الشرق الأوسط والاتحاد وإيلاف على مدى الثلاثة أيام الماضية، يستعرض فيها الذكرى العشرين للغزو العراقي للكويت، رأينا في أن تكون مقال اليوم، ولكم التعليق:

عشرون عاما على غزو الكويت
 طرق قوي وشديد على الباب، أنظر إلى الساعة- السادسة صباحا، ما اليوم؟ الخميس 2-8-1990م، ليس يوم السكارى والإزعاج في مدينة مانشستر البريطانية. ترى من الطارق؟ أهرع إلى الباب، صديقي السوداني جعفر علي: 'اصح يا زول العراق احتل الكويت'. بين النوم والصحو، أكرر سؤالي باستهزاء: 'شنو  تقول يا أخي؟'، ويكرر عبارته فأرد عليه رافضا: 'روح زين، معقوله؟'. افتح التلفزيون: القوات العراقية تجتاح الكويت وتحتلها وتعلن أنها ساندت ثورة وانقلابا بها والاتصالات تتقطع مع الكويت'.
 أتلفت حولي، أتأكد من أنني صحوت من النوم. تتأكد الأخبار، وتتأكد من أنك لم تعد نائما. تمنيت لو كان كابوسا. أنزل إلى الشارع بحثا عن هاتف فلم يكن عندي هاتف في شقتي، أتصل بالكويت لكن الخطوط مقطوعة.
 تتوالى الأحداث، ويستمر الشعور بين الحقيقة والخيال. الجيوش الدولية تحتشد بالمنطقة بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، ويستمر احتلال القوات العراقية للكويت سبعة أشهر عجاف، وتندلع حرب عاصفة الصحراء لتحرير الكويت.
 تحررت الكويت، لكن المنطقة لم تعد كما كانت منذ ذلك اليوم الأسود في الثاني من أغسطس عام 90، فقد أصبحت منذ لك اليوم خاضعة للتدويل والحماية الدولية- بشكل أو بآخر، وقاد احتلال الكويت إلى احتلال العراق لاحقا ولا زالت رسميا تحت الاحتلال والوصاية الدولية وبلا حكومة منذ مارس الماضي.
 دولة عربية مسلمة احتلت دولة عربية مسلمة أخرى ومسحتها من الخارطة. انصرف نضال العرب منذ العام 1967م على انسحاب إسرائيل من الأراضي العربية المحتلة وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة. نزيل بلدا عربيا مستقلا ونطالب بخلق آخر من العدم؟
 يوم غد الاثنين تمر الذكرى العشرين لاحتلال العراق للكويت عام 90، وتمر معها ذكرى مشاهد العجز العربي في وقف عدوان العربي على أخيه العربي، والتدخل الدولي الذي فرض تدويل المنطقة وأعلن وفاة التضامن العربي واتفاقية الدفاع العربي المشترك وجامعة الدول العربية- وإن بقيت شكلا.
رفض الرئيس العراقي صدام حسين كل دعوات العقل، وغرّّر به جنون العظمة وغوغاء الشارع العربي ومظاهرات المحبطين وخطب المفلسين وشعارات الحانقين: 'بالكيماوي يا صدام، من الخفجي للدمام!' وأغوى زعماء وساسة عرب صدام حسين برفض الانسحاب من الكويت دون قيد أو شرط، وتراكمت الخطب والكتابات المساندة لصدام حسين وجيشه، ذاك يوهمه بأن حرب تحرير الكويت لن تندلع، وآخر يفصل له أنه منتصر لا محالة لو اندلعت، وقامت الحرب، وخسر العراق جيشه، واحترقت الكويت بنفطها شهورا طويلة، وراح الكويتيون والعراقيون يلعقون جراح القهر والظلم التي أحدثها دكتاتور لم يكن يستمع إلا لنفسه ومؤازريه.
 تدور الأيام، ويستعرض الواحد منا المشهد: ترى! ما الذي تعلمناه كأمة من دروس جراء ذلك العدوان الغادر وما جرّه من ويلات ووبال علينا؟ هل يمكن أن يتكرر غزو آخر سواء للكويت أو لغيرها من دكتاتوريينا الذين لم يغادروا مسرح الأحداث منذ ذلك العام المشئوم؟
 جروح الكويتيين لم تندمل بعد على إثر ذلك العدوان، وجروح العراقيين أعمق وأشد ولا تزال تنزف دما وتنز قيحا وصديدا، والمنطقة لا تزال تروج وتموج، وطبول الحرب لا يزال يقرعها المرتزقة وتجار الحروب، والدروس المستقاة غائبة عن أمة لازالت شخصيات المشهد عام 90 أبطال العرض في العام 2010. عشرون عاما مرت والسودان في حرب داخلية، ولبنان على فوهة بركان، والجزائر يساند قلاقل الصحراء، وليبيا لا تزال دولة عظمى بقيادة الأخ العقيد، واليمن توحدت ثم تبعثرت، وأبطال المشهد لا يزالون على عروشهم قابعون.
 لا زال طرق جعفر على الباب يوم 2-8-90 يهز مسامعي إلى اليوم!!

عشرون عاما على غزو الكويت (2-3)
يصادف الغد الذكرى العشرين لأكبر زلزال هز العلاقات العربية في تاريخها الحديث، حين اجتاحت القوات العراقية الكويت في الثاني من أغسطس عام 90. كان الجانبان العراقي والكويتي قد بدءا محادثات في جدة بالمملكة العربية السعودية، كعادتها وكنهجها- استضافت المملكة الجانبين في محاولة لوقف الحملات التي شنها العراق على الكويت ودولة الإمارات العربية المتحدة بحجة 'سرقة نفط العراق'. وما أشبه الليلة بالبارحة، فهاهو العاهل السعودي الملك عبدالله بن عبدالعزيز يجوب المنطقة هذه الأيام ويعقد القمم بشكل ثنائي وثلاثي لمحاولة رص الصف العربي وحمايته من الفتن والتصدع.
 المحادثات العراقية الكويتية توقفت على أن تستأنف في بغداد. لكن الجيوش العراقية التي احتشدت على الحدود الكويتية كان لها حسابات أخرى. فاجتاحت الكويت ليلة الخميس الغادر واستباحتها سبعة أشهر وعملت على التنكيل بأهلها وسلب ما في خزائنها ومحلاتها وبيوتها بطريقة همجية بشعة لم يشهد لها التاريخ الحديث مثيلا. المئات من الكويتيين قتلوا، وسيق الآلاف من شعب الكويت لسجون الطاغية، وبعضهم لم يعثر له على أثر حتى اليوم.
 القيادة الكويتية اضطرت للانسحاب للمملكة العربية السعودية التي أصبحت ملاذا وملجأ لكل كويتي استطاع أن يهرب من جحيم الاحتلال. حاولت المملكة العربية السعودية إقناع صدام حسين بالانسحاب من الكويت، لكن جيوشه احتشدت على الحدود السعودية مهددة بدخولها، وهو تهديد نفذه بشكل يائس حين اخترقت بعض وحدات جيشه الخفجي لساعات في خضم حرب عاصفة الصحراء.
 ولئن كان الكويتيون يستذكرون بالمرارة طعنة الغدر والخديعة من قبل الجار الشقيق العربي، فلقد كان بلسم الانتصار لحقهم، وغضبة 'الفزعة' المضرية لهم سعودية بالدرجة الأولى، فلقد سخرت المملكة العربية السعودية أرضها وسمائها ومياهها لنصرة الحق الكويتي، ووقف الشعب السعودي بأكمله خلف قيادة الملك فهد بن عبدالعزيز رحمه الله، مساندا ومناصرا لكل كويتي طرده الغزو والعدوان من بلاده. إلى أن جاءت ساعة الصفر، فتحولت أراضي المملكة العربية السعودية إلى ميدان لاندلاع الحرب، وتحملت المملكة العربية السعودية من أجل نصرة الحق ومن أجل الكويت الكثير من الأذى والمشقة، وقدمت جل التضحيات في مواجهة ودحر العدوان.
 ويستذكر الكويتيون أيضا مواقف أشقائهم في دول الخليج، الذين سخروا الغالي والرخيص من أجل مناصرتهم، كما لعبت مصر وسوريا والمغرب دورا محوريا في حشد التأييد لنصرة المظلوم والتصدي للظلم.
  لقد سجل المجتمع الدولي في ذلك العام تحالفا غير مسبوق في التاريخ لإعادة الشرعية والاستقلال لدولة عضو في الأمم المتحدة، وكان ذلك التحالف إيذانا بافتتاح عهد جديد في العلاقات الدولية، ومرحلة جديدة في العلاقات العربية-العربية.
 ولقد كان الأساس في نجاح حملة المناصرة الدولية التي انتفضت لنصرة الكويت، هي نصرة الكويتيين لأنفسهم، فلقد رفضت كل القوى السياسية والفئات الاجتماعية والطائفية المختلفة التعامل مع المحتل، وعارضت بالدم والمقاومة القفز على دباباته لمناصرته في عدوانه على بلادهم، وسجل الكويتيون بذلك سابقة في تاريخ الحروب والغزوات لم يشهدها غزو أو احتلال على مر التاريخ، فأرشيف التاريخ يسجل لنا أنه ما من غاز غزا، ولا محتل أتى وإلا وكان له مناصروه ومؤيدوه ومن هم على استعدادا للتعاون معه طمعا او خوفا، لكن الأمر لم يكن كذلك بالنسبة للكويتيين الذين التفوا حول قيادتهم الشرعية والدستورية.
 اندحر العدوان، وتحررت الكويت، واستمرت العلاقات المتأزمة بين البلدين 'الشقيقين' حتى سقوط نظام صدام عام 2003م، فكيف هي علاقات البلدين المستقبلية؟ وما هي آفاق تطوراتها؟ وكيف يمكن لنا أن نقرأها مقارنة بما كانت عليه قبل عشرين عاما؟ هذا ما سنكتب عنه غدا...

عشرون عاما على غزو الكويت (3-3)

 تمر اليوم الذكرى العشرين لغزو العراق للكويت عام 1990، وتصاحبها ذكريات مؤلمة، واسترجاع شرخ كبير في العلاقات العربية وبالذات العراقية-الكويتية. فكيف هي الحال اليوم بين العراق والكويت؟ وما هي آفاق مستقبل العلاقات بينهما؟
 المنطق والعقلاء يقولون بما ليس منه بد، فالعراق والكويت دولتان جارتان ولا مجال في علاقات العالم اليوم إلا بالتعاون والصداقة وتقوية أواصر العلاقات بين البلدين على أسس المصالح المشتركة، وما يجمع الدولتين والشعبين أعمق وأشد وثاقا من أن يلغيه الاحتلال، مهما كانت آلامه ومآسيه، وأصلب من أن ترفضه السياسة مهما تباعدت رؤاها ومهما ابتعدت مواقفها.
  كانت الكويت منطلقا لتخليص العراقيين من الدكتاتورية، حيث كانت الدولة الوحيدة التي وافقت على انطلاق قوات التحالف الأمريكي على غزو العراق وإسقاط نظام صدام حسين فيها، وذلك لعدة أسباب أهمها: عدم شعور الكويتيين بالأمن والاستقرار طالما استمر صدام حسين ونظامه في بغداد، وثاني أهم أسبابها أنه ما كان للكويتيين أن يرفضوا للعراقيين ما قبلوه لأنفسهم حيث تخلصوا من صدام بمساعدة دولية، فصدام الذي احتل الكويت كان صدام نفسه الذي بقي جاثما على صدر العراق وأهله.
 سبع سنوات مضت على سقوط صدام، وعشرين عاما مضت على غزوه للكويت، فكيف يشعر الكويتيون أمنيا تجاه العراق؟ لا يختلف اثنان على أن المغامرة الجنونية التي أقدم عليها صدام حسين لن تتكرر، ويقر المتابعون بأن استقلال الكويت وحدودها مع العراق أصبحت مسألة لا غبار عليها، لكن المسألة بقيت عالقة حول وضع علامات حدودية وفقا لقرار ترسيم الحدود رقم 833 الذي أقره مجلس الأمن وقبل به عراق صدام وأقرت به الحكومات التي تلت سقوطه جميعا. وعلى الرغم من أن مسألة علامات على الحدود ليست بالشيء الفريد ولا هو بالنادر بين حدودنا العربية المختلفة، إلا أن بقاء بعض العلامات غير محددة المعالم يدفع بعض الكويتيين للتشاؤم: 'من لغدته الحية، خاف من الحبل'.
 وبقيت مسائل معلقة لا دخل للكويت والعراق بها مثل بقاء العراق تحت البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وهو أمر فرضته الشرعية الدولية ولن يزيله سواها، وقضية التعويضات التي فرضت أيضا بقرار من الأمم المتحدة وأبدت الكويت استعدادها للتعامل معها على أساس مشاريع مشتركة بين البلدين يمكن أن ترمم جسورا تهدمت، وثقة تدمرت بفعل صدام حسين.
 يرى الكويتيون بأن كثيرا من المسائل العالقة بين الطرفين مسألة طبيعية، وأنها ليست بخلافات قدر ما هي قضايا تجدها بين أي دولتين جارتين، لكن العراق يمر بمرحلة انتقالية، ولا يزال 'عمليا' تحت الوصاية الدولية، ويعيش فراغا سياسيا طال أمده، وغياب تشكيل حكومة تتعسر ولادتها يوما بعد يوم، يبطء بإزالة عوالق الماضي وإنهائها.
 أصوات نشاز تخرج من هنا وهناك بين فترة وأخرى، تحاول اجترار الماضي بكل مشاهده وقبحه، وهي تداعيات طبيعية لا يمكن زوالها في القريب العاجل، بل لعلها تكون محفّزا لتجاوز الماضي دون نسيان دروسه، والتطلع للمستقبل برؤى من ينشد التعايش والسلام والتقدم للبلدين. المنطقة دمرتها الحروب، وأتعبتها السياسة، وأنهكها الجهل والغوغاء، ولا مناص من التطلع للمستقبل، ولا بديل عن تجاوز الماضي بكل مراراته.
 مؤسف أن الذكرى العشرين للغزو العراقي للكويت مرت بنا كأمة دون أن تلقى الاستذكار العقلاني والإعلامي لدروسها، خاصة وأن مشاهد التوتر والغزوات والفتن لا زالت منتشرة بين ظهرانينا، ومعششة في عقول دكتاتوريينا وكثير من مثقفينا. إن الغزو كانت وليد ثقافة أدت إلى الدمار، ورحيل صدام حسين لم ينه جذور تلك الثقافة، فهي راسخة في مناهجنا وتاريخنا وإعلامنا وخطبنا.
 في هذه الذكرى الحزينة، نبشر بالمستقبل، ونستلهم من الماضي عبره، فلا خيار لنا سوى الحياة، ولا بديل للحياة سوى الموت، وعلينا أن نشيع الأمل، ونعمم السلام، ونتطلع للمستقبل، ونعمل على خلق جيل محب للحياة الكريمة، والعيش المستقر الآمن المزدهر، فنحن كبشر نستحق ذلك... أليس كذلك؟
سعد بن طفلة العجمي

 

 


 

الشرق الأوسط-مقال اليوم

تعليقات

اكتب تعليقك