د.محمد الرميحي في تحليل سياسي يري أن ما يحدث في إيران اليوم أعمق من الرغبات وأكثر مما يجري على السطح، وأن الثورة على مفترق طرق

زاوية الكتاب

كتب 1068 مشاهدات 0




الثورة الإيرانية على مفترق طرق
ما يحدث في إيران اليوم أعمق من الرغبات وأكثر مما يجري على السطح

تحليل سياسي : محمد الرميحي

الكثير من التحليلات التي كتبت حول ما يحدث في إيران تنقصها إما المعلومات المؤكدة، وإما تتخللها إرادة توجيه الأحداث رغائبيا إلى هذا الطريق أو ذاك من منظور أيديولوجي.
ما يحدث في إيران اليوم أعمق من الرغبات، وأكثر مما يجري على السطح. قضيتان في العمق؛ الأولى أن الدولة الإيرانية المبنية على (ولاية الفقيه) مخلوطة بوضع حديث في تداول محدود للسلطة، ومظهر من مظاهر (العزة القومية) مع خلفية إسلامية. هذه التركيبة ليس من المتوقع لها أن تختفي في هذه المرحلة التاريخية، فهي لم تستنفد استحقاقاتها التاريخية، هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن (الصراع) السياسي في إيران ليس مختصا فقط بقضية (الانتخابات) ونتائجها، فهي السبب المباشر فقط، أما السبب الأعمق فهو الوضع الاقتصادي أولا، والحريات العامة ثانيا، التي تشقّ النخبة الإيرانية من أعلى الهرم.

ذكرى قديمة لها مغزى
لم أكن أستطيع زيارة إيران في سنوات النظام السابق، نظام الشاه، كنت من ضمن جيل معادٍ لنظام الشاه، على الأقل من حيث الموقف المعلن وقتها، كان تهديده للخليج أحد عناصر ذلك الموقف، أما العنصر الثاني فكان نظام الحكم الذي يتبعه، والذي كنا نعتقد بأنه نظام (شمولي).. على كل حال جاءتني دعوة من جامعة هارفارد لندوة تعقد في إيران من أجل التفكير في جامعة (تعنى بالدراسات الخليجية)، وقتها كنت أصدر في جامعة الكويت مجلة دراسات الخليج، التي تحولت بعد ذلك إلى مركز. كانت الدعوة في نهاية العام 1977.
الغرابة أنها من جامعة هارفارد الشهيرة، واللقاء في إيران! سافرت بعد أن تأخرت الفيزا التي طلبتها إلى طهران يوما عن موعد بدء أعمال الندوة في 31 ديسمبر 1977. كان قد سافر الجميع من طهران إلى مقر الندوة في مازندران في الشمال الإيراني، وهي بالمناسبة مدينة مبنية على طراز مدينة باريس، وإن كانت مصغرة، بنيت في مرحلة رضا شاه الذي كان متأثرا بالنهضة الغربية.. ليلة طهران التي قضيتها كانت بالنسبة لي مقلقة، وحيدا في بلد لا أعرف فيه أحدا، لديّ موقف أكاديمي معارض للنظام، جميع المنظمين للقاء سافروا شمالا. قلقت في وقت مبكر بعد ليلة غير مريحة، وقتها ربما في الرابعة صباحا أذاع راديو الكويت وفاة المرحوم الشيخ صباح السالم طيب الله ثراه.
وأنا أستعد للنزول من غرفتي لملاقاة مندوب المنظمين، واصطحابي إلى المطار للحاق بالفريق الأكاديمي، سمعت ضجة خارج الفندق، ولايزال المنظر حيّا في ذاكرتي منذ ذاك الوقت، عدد من المواطنين الإيرانيين، ربما خمسون أو أكثر قليلا، ومجموعة بنفس العدد تقريبا من رجال الشرطة يجرون خلفهم بهراوات.. عرفت رجال الشرطة من خوذاتهم.
المهم أني نزلت إلى ردهة الفندق، كان في انتظاري المرافق، أفطرت وذهبنا إلى المطار، في ذلك اليوم كان البرد قارسا والثلج ينزل نتفا بيضاء. وصلت الطائرة إلى مطار مازندران، ومنها إلى مكان عقد الندوة. كان هناك بعض العرب، منهم كما أذكر إسحق الخوري -رحمه الله- أستاذ اجتماع في الجامعة الأميركية في بيروت، وإبراهيم سعد الدين أستاذ اجتماع في الجامعة الأميركية في القاهرة، وعدد من الأكاديميين الأميركان الذين كنت أعرف بعضهم، وعدد من الأكاديميين الإيرانيين الشباب. سردت ما رأيته صباح اليوم للجميع (مظاهرة صغيرة في طهران)، لم يتحدث أي من الأكاديميين الإيرانيين علنا، ولم يعلقوا على الموضوع. في استراحة الشاي، أخذني أكثر من زميل إيراني على جنب، وسأل: ماذا رأيت اليوم؟ رددت الوصف الذي ذكرت. لمفاجأتي فإن أكثر من واحد منهم بعد أن أصف له ما رأيت، يهزّ رأسه عجبا، ويقول: مظاهرة في طهران!! لا بد أنها من تنظيم السافاك (الجهاز الأمني السياسي لنظام الشاه)، لسان حال الإيرانيين وقتها يقول إنه مهما جرى فلن يستطيع أحد أن يتظاهر علنا لمعارضة النظام، وقتها (في نفس الأسبوع) كان جيمي كارتر في زيارة رسمية إلى طهران، وأشاد (بواحة الاستقرار في الشرق الأوسط)!!

شرارة الحريق الكبير
ما أريد أن أقول بسرد القصة بإيجاز: إن عددا من الأكاديميين الإيرانيين المطّلعين لم يكونوا ليصدقوا وقتها أن تخرج في طهران مظاهرة سياسية مضادة للشاه!! كان ذلك في بداية شهر يناير من العام 1978، بعدها بأقل من اثني عشر شهرا، من أجل تقصير قصة طويلة، وصل الإمام الخميني رمز الثورة الإسلامية إلى طهران، قالبا ومن معه صفحة كاملة من تاريخ إيران الحديث.
من هنا يجب ألا نتجاوز ما يمكن أن تفعله الشرارة التي قد تنقلب إلى حريق كبير.
بالتأكيد التاريخ لا يعيد نفسه، ولكن نعرف أيضا أن الشعب الإيراني شعب فخور بنفسه وبتاريخه، وتعوّد أن يهضم التغيّرات، ويضيف إليها من تاريخه، يروم التطور دائما.. هكذا حدث في التحول من نظام الشاه إلى نظام «إسلامي شبه ديمقراطي»، إلا أن الشعوب، بمن فيها الشعب الإيراني، تطلب التغيير إلى الأفضل، وبعد ثلاثين عاما من تجربة فيها الإيجابي وفيها السلبي، تاق الشعب الإيراني إلى شيء من التغيير، على أساس قاعدتين؛ الأولى تطور اقتصادي، والثانية شيء من الحريات الفردية. ورأى كثيرون في إيران أن حسين موسوي قد يكون نافذة توسّع ما بدأه محمد خاتمي، التوق إلى التطور من الداخل. من هنا جاءت ردات الفعل التي لاتزال تتفاعل أحداثها على الساحة السياسية الإيرانية.
ما يفرّق سنوات ما قبل سقوط نظام الشاه عن اليوم، أن الخارج (الغرب) بكل تلوّناته كان مسانداً للشاه ومعادياً للثورة، واليوم «الخارج» معاد للثورة ومساند للانفلات من بعض ممارساتها، (ولا أقول الانقلاب عليها). ردة فعل الشارع الإيراني هي في الغالب معادية لما يأتي من الخارج. هذا أول عنصر من عناصر الرأي القائل إن النظام الحالي لم يحن (تغييره)، فموقف الخارج «المعادي» يرصّ الصفوف الإيرانية. من هنا أيضا يمكن تفسير ما يقوله النظام، إن الحراك الحالي هو من «الخارج» ربما حتى بشكل مبالغ فيه.
إلا أن هذا لا يعني تجاهل التحديات الكبيرة التي تواجه النظام، والتي يمكن أن تتسبب له بمشكلات حقيقية.

أرينة الإسلام
ثنائية «الإسلام» و«العرب» مشكلة أخرى شاخصة في مسيرة الثورة الإيرانية، وتكمن تجلياتها في الضمير التاريخي للشعب الفارسي (تعمدت هنا أن أتحدث عن فارس للإشارة إلى أهمية الثقافة الزرادشتية في الضمير الثقافي لإيران الحالية). التناقض أن كثيراً من آيات الله أصحاب العمائم السوداء، هم نظريا من نسل عربي، (في خطاب أخير للسيد حسن نصر الله في لبنان، قال بما معناه إن الإمام الخميني من أصل عربي)، هذه الثنائية تشكل إحدى المعضلات في العلاقات العربية- الإيرانية اليوم، وهي إحدى الركائز المسكوت عنها، والتي تسمم العلاقات في أكثر من مكان.
العربية هي حاضنة الإسلام، تلك حقيقة لا ينفر منها النظام الإسلامي الإيراني، ولكن التقارب مع العرب لا يتوافق مع المترسخ من التراث الزرادشتي في ازدراء العرب، لذلك فإن هذا (الازدراء) له مبرر سياسي اليوم، وهو أنهم «أي العرب» موالون للغرب، لذا يجب أن يتعامل النظام الإيراني مع القلة العربية التي هي (معادية للغرب)، ويمكن أن تصبح موالية للنظام الإيراني، و(بولاية الفقيه) يكون بذلك قد تم الانسجام بين متطلبات «القومية الزرادشتية» والمكوّن الإسلامي للنظام. أي بمعنى آخر ما سمّاه بعض الساسة العرب بـ(الهلال الشيعي)، والذي يمكن أن يكبر ليصبح بدراً!! لديّ تعبير يوجز هذا -إن جاز لنا النحت لغوياً- وهو ما أسمّيه (أرينة الإسلام)، أي التوافق بين (الإيرانية والإسلام).
حقيقة الأمر أن هذه المعركة المتخيلة معركة وهمية تماما، فهاهو العراق مثلا على الرغم من أكثرية شيعية في الحكم، لم يهضم فكرة «ولاية الفقيه»، ولا أعتقد أنه بهاضمها في المستقبل.
في نهاية الأمر فكرة «أرينة الإسلام» بخلق عداء متخيل مباشر أو بالتدخل في شؤون داخلية، لن تأتي إلا بنتائج سلبية تماما، عدا أن تسميم الأجواء سيرهق الاقتصاد والسياسة في إيران.
إيران لم تعد ثورة، هي دولة اليوم، والبعض لم يهضم تلك الحقيقة. والمعركة في إيران، إن صح التعبير، هي بين استمرار (الثورة) بأشكالها الداخلية، وطموحها الخارجي، وهو ما يشكل عبئاً كبيراً على الشعب الإيراني، للتحول إلى (دولة) لها مصالح في الجوار وفي العالم، وعليها أن تتكيف معها وتحقق مصالح كبيرة للشعب الإيراني.
ذلك في تقديري لب ما نشاهده ونسمعه في إيران اليوم. صراع ليس بجديد، بدأ في خطواته الأولى السيد رفسنجاني، ثم تبعه بتوسع معقول السيد خاتمي، إلا أنه صراع لم يحسم بعد بين مدّ وجزر، هناك فصول جديدة قادمة فيه، لا يستطيع أحد أن يتكهّن بها الساعة، وكلما ترك الشعب الإيراني يحقق، دون تدخل من أحد، مصالحه ويحدد مستقبله، كان ذلك أجدى لتبكير نضج الدولة في إيران. لكن المخاطرة هنا قائمة، وهي خلق مسارب (ثورية) لاستفزاز الخارج، على أمل شل سلاح التقدم إلى الدولة في الداخل!!
نبقى نحن في الجوار مؤمّلين أن تتطور إيران -سلما- في المستقبل، لأن ذلك هو ما يحقق مصالح الجميع.. فإيران، وإن اختلفت اللغة، أقرب البلاد إلينا، ونشاركها ثقافة واسعة، علينا أن نبني على إيجابياتها.

أوان

تعليقات

اكتب تعليقك