أزمة الإنسان العربي ليست أزمة سياسة أو نظام أو فكر إنما «أزمة ثقافة» و«أزمة فقد هوية».. برأي محمد المقاطع
زاوية الكتابكتب د. محمد المقاطع سبتمبر 3, 2018, 11:18 م 588 مشاهدات 0
القبس
الإنسان العربي بين الأزمة والثقافة (1)
د. محمد المقاطع
احترت كثيراً وأنا أحاول أن أشخِّص الوضع العام الذي آلت إليه حال العالم العربي، وتحديداً إنسانه العربي، فقد ترددت كثيراً في أن أجعل عنوان مقالي «أزمة الإنسان العربي»، لكوني أدرك أن حقيقة الأمر ليست نابعة من «أزمة الإنسان العربي»، بل جوهرها مرتبط «بنشأة وثقافة» الإنسان العربي، نعم هو يعيش أزمة حادة وغير مسبوقة، أزمة جعلته إنساناً متناقضاً يتردّد في كل أمر وعند كل قرار، فقد جرّد من كل قيم الثقة والحريّة والأنفاس الزكية، إذ إن أزمته في كنهها أزمة «خارجية» أتته من عوامل وظروف خارجية، وليست أزمة «داخلية» نابعة من ذاته أو من شخصيته، مصدرها بالنسبة للكثيرين «أنظمة فاسدة» وجد نفسه يعيش في كنفها، أنظمة تنكّرت لأصالتها، وأسرت نفسها للآخرين «أنظمة» أو «أشخاصاً» لأنظمة ظنت أن انسلاخها عن هويتها العربية والإسلامية هي التي ستكسبها مكانة واحتراماً، فتنكرت لأصالتها وانقادت وراء أوهام وترهات، فضلّت معها سواء السبيل، فقد التمست هذه الأنظمة، وهي تعيش هزيمة نفسية وحالة انكسار حضاري، أن سبب نكستها في «الدين» وتحديداً «في الإسلام»، فكان تفكيرها البديل وسط حالة الهزيمة النفسية والانكسار الحضاري أن تعلن عن حالة انفصام بينها وبين الدين «الإسلام»، حتى تسير بموكب تقليد أعمى للغرب، اعتقاداً منها أن ذاك المسلك هو الذي شكل «حضارة الغرب»، ومنحه ذلك التقدم والنقلة النوعية في تطوره الحضاري والفكري والثقافي، الذي صنع منه «حضارته الراهنة»، ألا وهو وهم انفصال الدين عن الدولة أو بمعنى آخر «علمانية الدولة» لعزل الدين عن الحياة المتكاملة للأمم باقتصادها وأنظمتها وسياستها وتربيتها وثقافتها، وهكذا تسلل أو أقحم مفهوم دخيل «عليها» أطلقه صراع كنسي ارتبط باضطهاد الناس وإذلالهم في سياق ومواجهة وجهها الآخر، وهو أيضاً كنسي وديني، ولكنه غلف بثوب ادعي في ارتدائه أنه متحلل من الدين «علماني»، وهو عكس ذلك تماماً، فلم يتخلّ الغرب لا شعوباً ولا أنظمة ولا وثائق ولا ممارسة عن بنائه الديني الكنسي، فظهرت تبعاً لذلك مقولتهم المغلفة «مال الله لله، ومال قيصر لقيصر»، لتشيد فكرة فصل الدين عن الدولة باعتبارها الركن الذي ليس للدولة من وجود من دونها، للتبشير بـ«نظرية علمانية الدولة» في الغرب، ويتم التسليم بصحة وصواب هذه النظرية، رغم أن الحقيقة بالأدلة والبراهين الوثائقية والعملية والواقعية تبرهن على أن الدولة الغربية اليوم شديدة الارتباط بالدِّين، بل إن مدوناتهم الأساسية بالدساتير والمواثيق والسوابق والممارسات تؤكد متانة وشائج الدين بالنسبة الىا لدولة الغربية المعاصرة، (فالقسم عند تولي المسؤولية، ومرجعية رأس الدولة، وتبادل السفراء، ونظام الانتخاب، ومواثيق الحقوق وفكرة الأغلبية، وإجراءات التقاضي، وقسم القضاة والعزل وغيرها جميعها مصدرها الأول، ولا يزال كنسياً»، وأن شعار علمانية الدولة هو إطار نظري تدحضه حال هذه الدول ومدوناتها وممارساتها، وما ذكرت بعجالة مسألة تؤكدها وثائقهم.
والمؤسف أننا بلعنا طعم الغرب لنا أمام حالة الهزيمة النفسية والانكسار الحضاري، فلم نتمكن من إدراك ذلك لنحقق توازناً وثقة ذاتية، فكان بديله انسلاخاً عن هويتنا وتخلينا عن أصالتنا، فتولدت أو قل «ولدت» لدينا «أنظمة» و«شخصية» أعلنت انفصامها عن هويتها، فتاهت في لافتات وهويات لا تمت لها بصلة، فصارت غريبة في ديارها، وفرضت على مجتمعاتها اغتراباً ووحشة من خلال ذلك الانفصام، فظهرت لدينا أنظمة «تقدمية» أو «اشتراكية» أو «بعثية» أو «إقليمية» أو «وحدوية» أو «ثورية» أو أي مسمى آخر غايته «علمانية»، وهدفها التنكر والانسلاخ عن الهوية واعتبارها علة تخلفنا وتراجعنا وتفوق «الغرب» علينا في سياق حالة الهزيمة النفسية والانكسار الحضاري، وقادنا ذلك إلى الإفلاس من الأمرين، فلم نحفظ أصالتنا وهويتنا، ولَم نبلغ ما وصل إليه «الغرب» من تقدّم وازدهار.
والعلة في ذلك تكمن في أننا أضعنا مشيتنا ومشية الغراب الذي حاولنا تقليده، فأضحينا في الحالين دولاً أو قل «أنظمة معظمها معوّقة ومشلولة غير قادرة على مواكبة التقدم والعطاء». فقد تبنينا علمانية خرقاء دخيلة ورثتنا التخلّف والويلات وفصمتنا عن منبع قوتنا وأصالتنا، فأضحينا غالباً دولاً وأنظمة تسير بلا هدى، ولذا معظمنا دولاً أو أنظمة تعيش في أزمة «أزمة الكثير من الأنظمة العربية» بل «أزمة الإنسان العربي»، وهذه الأزمة ليست أزمة سياسة أو نظام أو فكر، إنما «أزمة ثقافة» و«أزمة فقد هوية» وأزمة «تيه عن الذات».. أزمة تخلٍّ عن مبادئ، وأزمة غياب قيم، وأزمة أخلاقيات، ذلكم أن أزمة ضياع الهوية هي حقيقة أزمة الإنسان العربي، بل والكثير من الأنظمة العربية.
يتبع..
تعليقات