سيادة القانون تُعزّز الإقتصاد الوطني

الاقتصاد الآن

430 مشاهدات 0

صورة من الانترنت -لبنان

د.ماجد منيمنة

 إذا كان تطلّع اللبنانيين إلى الوحدة الوطنية حلماً وشعاراً ومن أهمّ شعاراتهم السياسية في القرن الواحد والعشرين، فإن هذه الوحدة تبدو ضرورة قومية في وقت تزحف فيه العولمة إلى الأسواق المالية، وتصادر سيادة الدول وتهمّش هويات الشعوب، لتحقق مصالح التكتلات الضخمة ورؤوس الأموال الكبيرة والشركات العابرة للقارات، وتغدو كذلك مدخلاً من مداخل الاستجابة العربية للتحديات الكبرى التي تواجه الأمة• وعالم اليوم هو عالم النظام العالمي المتفرّد المتسلّط، عالم العولمة المتغطرس والاقتصاد الدخيل، والتكتلات المالية التي تشكل مصالح مشتركة، بينما ترسم خرائط الأسواق الغربية تدابير لحماية مصالح الشركات العالمية الضخمة التي تغزونا وتنمو على حساب مصالحنا الوطنية• ولكننا بعكس كل هذا لم نتمكن من إنشاء سوق عربية موحدة تحمي المستهلك العربي، وتحدّ من التدخل والهيمنة والتأثير الغربي في القيم وسيادات الدول العربية وقضايانا المصيرية والمركزية• وتلك المواجهة تأتي في مقدمة ما يمكن أن نعوّل عليه من عمل وطني يجعلنا، أفراداً ودولاً، نستشعر بضرورة الوحدة وأهميتها ومردودها الإيجابي على أوضاعنا ومصالحنا ومكانتنا وقضايانا المالية والمعنوية•

 إن الوطن يمر بمرحلة اقتصادية حرجة، ويجب عدم دفن الرؤوس في الرمال والهروب من الواقع بالتصريحات التمويهية التجميلية لخلق واقع خيالي• وقطعاً سيقع العبء في المرحلة المقبلة على المواطن الذي ظل على مدى أكثر من ثلاثين عاماً وهو يسمع بأذنيه ويرى بعينيه شريحة غير منتجة قد صعدت مالياً من السفح للقمة بلا سلالم متدرجة وطارت بلا أجنحة!!•

 والأوضاع المالية لا تنفصل عن الأحوال الاجتماعية، حيث ظلّت شرائح عظيمة من المواطنين الشرفاء يحافظون على قيمهم وأخلاقهم النبيلة مما اضطرهم، بسبب الفقر والعوز أحياناً، إلى الانحراف الأخلاقي والتفكك الأسري واللهث وراء الحرام بسبب هذا الفقر المدقع، مما أنتج مشاكل اجتماعية واضحة للعيان• وإن الاقتصاد لا ينفصل عن السياسة، بل إن هذه السياسة الهوجاء تجعل من هذا الوطن بؤراً ملتهبة قابلة للانفجار، بسبب التفاوت في الدخل الفردي والحصول على الامتيازات الخاصة التي تطالها فئة من المحازبين والمقربين إلى المسؤولين النافذين من دون أية مراعاة لواقع عيشهم المرير•

 إن الوضع الاقتصادي والمالي وغلاء الأسعار وفوضى الأسواق يحتاج لجراحات جذرية ومعالجات بنيوية، والمؤسف أن عدداً من السياسيين، سواءً كانوا حاكمين أو معارضين، فإن الأنا عندهم مضخّمة أكثر من اللزوم، ولا تعنيهم الهموم المعيشية للمواطنين في قليل أو كثير، وبعضهم يحلّق في سماوات بعيدة عن الواقع، بل من دون إرساء قواعد سيادة القانون•

 ومن المعروف أن مبدأ سيادة القانون يعني أن يكون القانون، المشرّع من قبل السلطة التشريعية المختصة والناظم للعلاقات ما بين المواطن والدولة، وأن تعتبر أحكام القانون المرجع الأول والأخير للبت في أي خلاف أو موضوع منظم في القانون أو معالج فيه• وهذا مبدأ واجب الاحترام من كلا السلطتين، التنفيذية والقضائية، ومن قبل الأفراد أيضاً، كما يشمل المبدأ القرارات الإدارية أيضاً• فإذا نظّم القانون موضوعاً معيناً على نحو ما، أو حدّد أحكاماً خاصة لمعالجة مسألة من المسائل، فإنه لا يجوز تطبيق أحكام أخرى غير التي حدّدها القانون، فلا يجوز الارتجال بحل من خارج النص من ذوي السلطة التنفيذية، أو الحكم بشيء غير منصوص عليه في القانون حتى لو قبل به الأطراف• والالتزام بأحكام القانون يكون مترتباً على جميع السلطات والإدارات وأجهزة الدولة المكلفة بتطبيقه ومراعاته وفي مقدمتها السلطة القضائية• وينتج عن مفهوم سيادة القانون، بالضرورة، مبدأ المساواة أمام القانون، حيث يعتبر جميع الناس متساوين أمام القانون، مهما اختلفت أديانهم أو صفاتهم أو وظائفهم أو أوضاعهم الاجتماعية، وطبعاً من دون النظر للعرق أو اللون أو غير ذلك وخضوع السلطة التنفيذية أيضا للرقابة، سواء من قبل البرلمان أو المحكمة الدستورية أو مجلس الدولة•?

 والمساواة أمام القانون، لا تنفي أن يخص القانون بعض فئات من المواطنين بمعاملة خاصة إجرائية مثلا كالحصانة الوظيفية أو غيرها أو النظر لصفة بعضهم وغير ذلك من بعض الأحكام التي يختص بها زمرة معينة من الناس، وأن لا يجعلهم هذا خارج دائرة المساءلة القانونية أو يستثنيهم من مبدأ المساواة أمام القانون في النهاية•

 ويجب أن ينهي مفهوم سيادة القانون عصر الحكم المطلق والامتيازات والاستثناءات والحصانات غير المبررة التي يتمتع بها أصحاب النفوذ المقربين للسياسيين الذين يعتبرون أنفسهم في منأى عن المساءلة القانونية، وأن القانون يخص العامة من الشعب أو أنه لا يطبق إلا على عامة الشعب•?

 والحقيقة أن النظام الديمقراطي يمكن أن ينحرف عن مساره ليخدم مصالح فئات معينة، ولكن آلية عمل الديمقراطية، يجب أن تصحّح نفسها، لأنها تسمح بالرأي الآخر والمعارضة والتعددية الحزبية والصحافة الحرة والنقابات والجمعيات، ومهما يكن من أمر مساوئ الديمقراطية، فهي لا يجب أن تؤدي إلى إلغاء الرأي الآخر ولا إلى المركزية أو الاستبداد بالرأي والسلطة• ولكنها تبقي الباب مفتوحا كي تدخله كل فئات المجتمع، ويكون لهم صوت ورأي في ما يجري•

 ?إن الدولة القانونية، بحكم وظيفتها، عليها أن تحمي كافة المصالح القانونية، وهي ليست مقتصرة على الدولة وحدها، بل إنها تشمل أيضا حقوق الأفراد، فالحريات العامة يجب أن يحميها القانون• ولو تأمّلنا في هذه الاستفسارات حول مثل القاضي الناظر بالدعوى أو المسؤول صاحب القرار المطلوب، لتبين لنا أنها تعكس عدم الثقة لدى المواطن في تطبيق حكم القانون• إن العدل أو الحصول على القرار المعين مرهون بمن سيطبق القانون! ولن نناقش هنا الأسباب والمسؤولية عن ذلك فهي موزعة على الجميع• ولكن عندما تزول هذه الأسئلة والاستفسارات يمكننا القول بأننا وصلنا إلى مرحلة احترام مبدأ سيادة القانون، وأقنعنا المواطن بعدم أهمية معرفة اسم القاضي الناظر بالدعوى أو حسبَه ونسبَه ومنطقته !! ولا اسم المسؤول عن القرار الإداري المنشود، ولا منطقته الآتي منها !!•

 عندما يفقد الإنسان ثقته بدولة القانون الذي يحميه ويحفظ له حقوقه، فإنه من الطبيعي أن يتجه إلى القبول بمنطق الفوضى الخلاقة التي يلتجئ فيها إلى عناوين أخرى ضامنة ومحققة لمصالحه الخاصة، كالعائلة أو الطائفة أو العرق أو الحزب• وتلك المسلّمات هي سنّة من سنن الحياة لا اختلاف حولها• وقد يحصل الإنسان على مبتغاه الذي يسعى إليه من خلال الفوضى في ظل غياب دولة الدستور واحترام القانون• من تلك الأضرار انتهاك القيم الاجتماعية والمبادئ والمُثل المستمدة من أعراف الأجيال السابقة وعاداتهم وتقاليدهم المحافظة وعقيدتهم السمحة، فيتجه الإنسان نتيجة لذلك إلى المجهول الذي يفقده الراحة والطمأنينة والسكينة، ناهيك عن غياب البعد الأخلاقي الذي سيؤدي بطبيعة الحال إلى فشل المجتمع وانتشار الأمراض النفسية والاجتماعية فيه، حينها يمكن القول إنها بداية السقوط في الهاوية• ولنا في التاريخ الحديث والقديم الكثير من الدروس والعبر، حيث سقطت أمم وانتهت، لأنها فقدت أخلاقها، وتلاشت مجتمعات وانهارت لأنها أصبحت بلا قيم حميدة، ولا ثقافة إيجابية ولا مبادئ قويمة•

 نقول ذلك ونحن نرى بأم أعيننا كيف يلجأ المواطن وللأسف الشديد، إلى مسميات فئوية ضيقة كالعائلة أو العرق أو الطائفة بدلاً عن التزامه القانون لتحقيق مصالحه الشخصية، والمؤسف أن الأمر وصل إلى كل المستويات بصورة لم تعد تستطيع أن تضع مؤشراً لقياس حجم المشكلة التي في نظري استشرت لتصبح معضلة يستعصي حلها بسهولة•

 والأدهى والأمرّ من ذلك أن تلك الأمراض المجتمعية يتم تغذيتها من قبل قوى المجتمع المدني والسلطة التشريعية والحكومة معاً• وهذا هو مربط الفرس وبيت الداء الذي يحتاج إلى وقفة تأمل وتدبر• فلا يعقل أن تفتح مؤسسات القطاع العام أبوابها للواسطة غير المستحقة والمحسوبية غير المبرّرة، فتقرّب البعيد وتبعد القريب، ولا يعقل أيضاً أن تتجه القوى السياسية في المجتمع إلى اصطفافات قبلية وطائفية وعائلية وعرقية تتعامل فيها مع القانون على طريقتها، خاصة مع تلك القوى التي لبست ثوباً عقائدياً أو فكرياً ثم قرّرت الدخول في معترك العمل العام• ولا يعقل أيضاً للمعارضة الشعبية اليوم أن تلتجئ إلى القبيلة أو الطائفة كي تمارس ضغوطاً سياسية على الحكومة وغيرها من أجل الكسب الآني والرخيص لفئة أو مجموعة على حساب بقية فئات المجتمع الأخرى•

 لذا••• لا بد من دق ناقوس الخطر، ووضع تلك المعضلة كأولوية على رأس جدول أعمال السلطتين، لأن أخطر ما في الأمر ترك الأمور على ما هي عليه من دون التصدي السليم للمعالجة، ومن دون أن يسبق ذلك إدراك كامل بخطورة عدم المعالجة• فالمجتمع اليوم في أغلبه بات يعيش ضمن تلك الاصطفافات، ولا بد من حملة توعوية تبدأ فيها الحكومة والمجلس النيابي بنفسيهما أولاً، ثم بالآخرين، لتكونا عبرة حقيقية وقدوة للآخرين• حينها يمكن القول اننا بدأنا نسير في الاتجاه الصحيح الذي يعيد لبنان إلى مكانته التي كان عليها، ويجعله اسماً على مسمى•

 من هنا، يبدو واضحاً أن العمل الوطني يجب أن يكون بالأساس تنويرياً وتثقيفياً ويفضح كل شائبة، وكذلك الدفاع عن حرية وحق كل إنسان في الحياة والكرامة والعيش بأمان• لا تهم المواطن الصالح عن اتباع الديانات والمذاهب الدينية في لبنان على أساس الهوية القومية أو الدينية أو المذهبية التي يحملها الإنسان، بل تهمنا معاً حياته وكرامته وعيشه الكريم ومنع الأذى عنه وحقه في اختيار الدين والعقيدة وممارستها بكل حرية• لا نريد والمطلوب أن يعيش الجميع في أمن واستقرار وسلام وازدهار في هذا الوطن• وكم من السياسيين والمحازبين استطاع أن يحقق لنا هذه الآمال ووضعها على الطريق؟ من الصعب الإجابة عن هذا السؤال، وأتركه لمن اكتوى بنيران التمييز الديني والمذهبي في هذا الوطن الصغير!•

 نعم، يجب أن يحلّ على الشعب اللبناني ذلك اليوم الذي يتخلص فيه من ذهنية عدم الاعتراف بالآخر ورفضه والتمييز بين اتباع الديانات والمذاهب الدينية التي تحصل اليوم بفضل وجود قوى سياسية والقوى المتحالفة معها في السلطة والتي لا تتصدى لتلك الظواهر السلبية وتدّعي التمسك بهويات طائفية قاتلة على حساب الهوية الوطنية، وبالمقابل تتخلى عملياً عن هوية المواطنة الحقة والحرة والمتساوية والمتآخية•

جريدة اللواء

تعليقات

اكتب تعليقك