أدي مصر يا اللي شككتم في مصر يا اللي افتيتوا الفتاوى بحقها ملهمش حصر- تنقلها لنا نادين البدير
زاوية الكتابكتب فبراير 12, 2011, 1:38 ص 2811 مشاهدات 0
نادين البدير / مصر منوّرة
حكاية حدثت قبل 25 يناير بعامين.
في الفندق الفخم ذي الخمس نجوم المطل على النيل حيث كنا نقيم، ندخل أنا وزميلي محملين بكتب اشتريناها من احدى دور النشر يرافقنا شاب مصري يعمل بذات الدار يحمل معنا بقية الكتب. بعد عبورنا ممر التفتيش، يقف الحراس لتفتيشه. وقفت وزميلي نتحدث ريثما يأتي صديقنا، استغربنا وقوفه الذي طال، واقتربنا لمعرفة ما يحدث. كان الحراس يمنعونه من الدخول وهو ينظر إليهم ولا يناقش بل يطلب منهم السماح له بترك الكتب فقط.
تدخلنا نريد أن نعرف سبب المنع.
قالوا لنا: أنتم تفضلوا، لكنه لن يدخل. سألناه: لماذا؟
قالوا: ممنوع أن يدخل لأنه من خارج الفندق.
سألناه: هو صديقنا، هل تمنعون زيارات الأصدقاء؟ أهو فندق أم حبس؟
وبعد نقاش بسيط: بإمكانه الدخول بشروط. أولها أن يعلق هذه البطاقة على صدره
وسلموه بطاقة بدت كأنها تعني شيئا سخيفا لا أعلم ماهيته ولم أفهم تفسير ما يحدث أو أني فهمت ولم أود تصديق ما فهمته.
ولم لا نعلق نحن أيضاً هذه البطاقات؟
يا فندم كما قلنا لكم لأنكم نزلاء وهو من خارج الفندق.
وكيف علمت بذلك وأنت لم ترنا سوى الآن... هل كتب على جبيننا كلمة (نزلاء)؟
جادلناه بصوت مرتفع وانهال عليه زميلي بالصراخ لدرجة أن كل من بالبهو وقف ساكناً: تمنع إنساناً من دخول فندق لمجرد أن مظهره لا يعجبك؟ لمجرد أنه بسيط لا يرتدي الـ(سينيه)؟
خرج عدد من موظفي الاستقبال يطلبون من زميلي أن يخفت صوته ويهدئ روعه ويرجونا أن لا داعي لكل هذه الجلبة. وسط ذلك التفت للشاب أحسبه مشاركا بالمهزلة فرأيته يرجوني أن نتوقف ويقول: معلش مش مشكلة.
مش مشكلة ليه؟ انت ابن البلد، انت المفروض اللي تدخل واحنا اللي نطلع.
مجراش حاجة.
لو كنت أحد أثرياء الخليج أو كنت من أصحاب الأطيان والأموال هل كانوا سيطردونك أيضاً؟ المفروض انك انت اللي تدافع عن نفسك مو احنا. هذا بلدك
وكنت أكرر عليه هذا بلدك، وتمر على مسمعه كلمة (بلدك) دون أن تهزه فينتفض لكرامته أو تعني له شيئا له علاقة بإنسانيته. كان لا يعيها أو كان يعيها أكثر مني ويعي الموقف ويسخر بداخله مني كوني أتشدق بشعارات الوهم الساذجة. الإنسان في بلده ملك. لكننا في النهاية نحيا عبيدا في أوطاننا، هو ممنوع من دخول الفندق الفخم بحجة فقره وبقيتنا ممنوعون من أشياء لا حصر لها بحجة أننا مواطنون لا ننتمي للطبقة الحاكمة
كررت عبارة (هذا بلدك) حتى انتابني شعور بأنني أكررها على نفسي وأسمعها للمرة الأولى، ثم انتابتني رغبة غريبة بتعريف كلمة (بلدك). كيف أعرفها؟ وهل ألتزم بدوري بما تحمله عبارة (هذا بلدي) حين أكون بحضن وطني أم أنني في الحقيقة أتغاضى مثله لأنني أعرف اللعبة وأعرف المعادلة؟ الثمن الرخيص لأي مواطن عربي داخل بلده.
طبعا لم نتوقف حتى خرج أحد مديري الفندق ليعتذر لنا فقال زميلي: لا تعتذر لنا، أريدك أن تعتذر من صديقي وأن تأتي بمدير الفندق ليعتذر له أيضاً.
وأقدم الكل على الاعتذار للمواطن المصري وأعرف أنهم ما فعلوا ذلك إلا لإنهاء الحكاية.
انتهت الحكاية بالبهو. لكنها لن تنتهي من ذاكرتي أبداً ولن تنتهي ملايين الحكايات المماثلة من ذاكرة أصحابها المواطنين الذين أصبحوا أغراباً داخل أوطانهم.
أحسست بأوجاع جديدة لم أدركها من قبل. شعرت برغبة في البكاء.
كرهت الثورة الغادرة. فهمت لم يترحم الكثيرون على عهد الملكية. أحسست ببشاعة وألم الطبقية التي صنعتها ثورة من أهم مبادئها النظرية القضاء على الطبقية والإقطاع.
كان لا بد أن تندلع ثورة جديدة تأخذ حق ذلك الصديق المصري البسيط.
ثورتنا تبكيني كل يوم وتفرحني كل يوم. هل قلت ثورتنا؟ لم تبدو ثورة مصر وكأنها ثورة العرب جميعاً؟
لم تبدو وكأنها من حقنا جميعاً؟
لأن كل شيء بدأ من مصر. وحين قصدوا تعتيم الحياة العربية وقمع مجتمعاتها بدأوا من مصر، انهار المجتمع المصري وانهارت الحياة الفكرية وضاعت الطبقة الوسطى وقضي على الليبرالية المصرية المعروفة فراح كل أمل عربي بإمكانية الحياة من جديد. فهل تبشرنا تظاهرات ميدان التحرير بعودة مصر التنوير عما قريب؟
في مقال لي عن الحب تحت عنوان (إن جئتك أصرح عن حبي) كتبت سيدة تعليقاً مأسوياً ساخراً لا أنساه عنونته بـ (والنبي انت فاضية ورايقة) تقول: طيب ياستي الف شكر، بس تعالي زورينا نحن نساء العشوائيات ورجالتنا مش لاقية تأكلنا وبنشرب من المجاري. طيب هاقول له ازاي انا بحبه ووجع الكلى هيموتني والفيروس (س) واكل كبدي. احسن تتبرعي لنا بماسورة مياه ولا بمستشفى، ربنا يخليكي
كان لا بد أن تندلع ثورة تعيد الحق للجميع. تعيد لنا مصر التي سحرتنا وشكلت سيلا طويلا من أفكار نملكها عن الحرية وعن استحالة العيش دون مسألة مهمة هي الكرامة.
لا بد أن تعود مصر. فتكوين الثوار الجدد لا يحوي حقداً طبقياً ولا يخطط للانتقام. ثورة غريبة على الشارع العربي، تفاجئ الجميع. فلا تعرف المقايضات ولا تؤمن بخطابات الأوهام، وليست تمثل جهات حزبية ولا سياسية. هي ببساطة ثورة الإنسانية التي سئمت الحياة غير الآدمية.
اختار النور أن يبدأ من المكان الذي انتهى فيه. من القاهرة.
صدق من سماها القاهرة... قهرت كل أمل مفقود وكل بؤس ويأس وكل حلم مستحيل.
حلمت اليوم أنني مصرية أقف بينكم وألوح: تحيا الحرية والكرامة والإرادة الشعبية.
(أدي مصر يا اللي شككتم في مصر يا اللي افتيتوا الفتاوى بحقها ملهمش حصر).
أحمد فؤاد نجم *
تعليقات