زايد الزيد ينعي البغدادي ويراه رجلا نادرا في جرأته وشجاعته في وقت كثر في الجبناء، ونادر في نظافته في زمن أصبح فيه «الحرامية» هم نجوم المجتمع

زاوية الكتاب

كتب 1853 مشاهدات 0




 الخلاصة
رحيل رجل نادر
زايد الزيد 

أكاد أجزم أن نبأ وفاة الدكتور أحمد البغدادي، هز من الأعماق، كل من عرف هذا الرجل الكبير عن قرب، ذلك انه من نوع الرجال النادرين، نادر في جرأته وشجاعته في وقت كثر في الجبناء، ونادر في نظافته في زمن أصبح فيه «الحرامية» هم نجوم المجتمع، ونادر في بساطته وتواضعه بعد أن أصبح التكبر والتكلف من سمات غالبية الأكاديميين، ونادر في شهامته وفي طريقة اختلافه مع الآخر، فلا يفجر بخصومة مع الآخرين حتى لو هم فجروا في خصومتهم معه، ونادر في انسانيته، فكان يتعامل معنا كطلبة وكأنه أب لنا، وبعد التخرج حوّر في طريقة تعامله معنا، فأشعرنا بأننا إخوة له وأصدقاء.

دخلنا جامعة الكويت في بداية الثمانينيات، جيل مرتبك، شهدنا بدايات انحسار المد القومي، وصعود تيارات الاسلام السياسي، وفي قسم العلوم السياسية تحديدا حيث ندرس، وحيث تختلط التيارات السياسية والفكرية التي كنا نتلقاها في المناهج، بمثيلاتها التي نعيشها في حياتنا الطلابية والسياسية، ووسط هذا الزحام الفكري والسياسي المتصارع، لم نجد من بين كل أساتذة العلوم السياسية إلا قلة تتفاعل مع حيرتنا وفوضويتنا وتساؤلاتنا اللا منتهية، وكان في طليعة هذه القلة الدكتور أحمد البغدادي..

كطلبة مستجدين، قمنا في الفصل الأول من دراستنا، أنا ومجموعة من الزملاء، بالتسجيل في مقرر «حكومة وسياسة دولة الكويت»، وشاءت الصدف أن يكون أستاذ المقرر هو الدكتور البغدادي، وفي هذا المقرر بالذات، تشكل وعينا السياسي في جانبه المحلي المتعلق بفهم دور السلطات الثلاث وعلاقتها ببعضها بعضاً، وكان منهج المقرر من صياغة الدكتور البغدادي نفسه، فهو لم يعتد على نسخ المناهج من الآخرين كما يفعل كثير من الأساتذة، كان منهج البغدادي في مقرر «حكومة وسياسة دولة الكويت » منهجا دسما بامتياز، فهو مليء بالكتب والدراسات الممنوعة من النشر، فهناك في المنهج جزء من كتاب «الكويت: الرأي الآخر» للدكتور عبدالله النفيسي، وهناك جزء من كتاب: «تاريخ الكويت السياسي» لحسين خلف الشيخ خزعل، وكتاب «نصف عام من الحكم النيابي» لخالد سليمان العدساني، بالاضافة إلى دراسة للدكتور البغدادي تحلل أسباب أزمة الديمقراطية في الكويت، نشرها في مجلة «الباحث» وكانت تصدر في لندن، ومنعت وزارة الاعلام دخول ذلك العدد للكويت، كما أن منهج المقرر كان يحوي أيضا جرعة دستورية معتبرة، حيث ضمن البغدادي المنهج ثلاث دراسات للعلامة الراحل الدكتور عثمان عبدالملك الصالح، الأولى وهي الدراسة الشهيرة التي فنّد فيها مقترح الحكومة لتنقيح الدستور، واستند عليها المجتمع المدني الحي (آنذاك) في نسف المشروع من جذوره، والدراسة الثانية هي ضمانات حقوق الانسان في الدستور الكويتي، أما الثالثة فكانت أجزاء من كتاب الراحل والمعنون بـ: «النظام الدستوري والمؤسسات السياسية في الكويت».

وللقارئ اليوم أن يتخيل تأثير هذا المنهج الدسم على المتلقين والدارسين، في وقت كان يصعب فيه الحصول على المعلومات، قياسا على ماهو متوافر اليوم من دراسات ومعلومات تفيض بها الشبكة العنكبوتية «الانترنت»، وكان من كثرة الاقبال على التسجيل في هذا المقرر، أن ادارة الكلية تمنحه القاعة رقم (112) «مضطرة» لأنها القاعة الأكبر في كلية التجارة، وكان من المعروف أن هناك كثيراً من طلبة الجامعة من مختلف الكليات ومن غير المسجلين في المقرر، بالاضافة إلى آخرين مهتمين من خارج الجامعة، يستأذنون البغدادي في حضور المحاضرة للاستماع والافادة من هذا المنهج الدسم، وكان من سلبيات هذه الطريقة المتسامحة للبغدادي تسلل عناصر مباحث أمن الدولة للقاعة بغرض تدوين كل مايدور فيها من معلومات ونقاشات، وكان البغدادي يعرف هذا الأمر ويتعامل معه بسخرية الواثق من نفسه، وكنا نتحاور معه في مكتبه حول هذه الجزئية، ونلومه على السماح لهؤلاء بدخول المحاضرة، فكان يرد: مالضرر من ذلك؟ نحن نذكر الحقائق وندوّن التاريخ بأمانة، ولانزوره كما يفعل الآخرون، ثم «هم» أيضا يحضرون الندوات ويدخلون الديوانيات، ثم يستدرك البغدادي متسائلا: أتعلمون ما الأمر الذي يضايقهم أكثر مما يحويه المنهج؟ ويجيب فورا على تساؤله: هم منزعجون من جو التفاعل الكبير الذي يخلق في المحاضرة، وأنتم من يساعدني فيه..

منذ عودته للكويت بشهادة الدكتوراه في العام 1981 وحتى الغزو العراقي في 1990، كان البغدادي يركز في كتاباته على الشأن السياسي المحلي، وبعدها ولقناعات كونها من تجربة الغزو، لا يتسع المجال لشرحها بإفاضة هنا، وتتلخص في توصله لقناعة مفادها أن العلة الرئيسية التي نعاني منها كعرب هي علة فكرية، لذا اتخذ منحى فكريا في كتاباته يعبر عن تلك القناعة..

يعرف المحيطون بالبغدادي أنه من أكثر الأشخاص في الكويت الذين أحاطت بهم إغراءات السلطة من كل حدب وصوب للظفر بمناصب عليا، وذلك بسبب ماعرف عنه من صلابة في المواقف، وأرادوا من خلال الاغراءات تليينه وتدجينه، إلا أنه وقف صلبا في وجه كل هذا.

موضوع مقاله الذي تسبب في سجنه، والتداعيات التي أحاطت بالقضية في المجمل، آذته كثيرا، وآذت أسرته الصغيرة أكثر، ذلك أن الدكتور البغدادي رجل متدين، يحافظ على أداء كل الشعائر بانتظام شديد، بينما ماكان يشاع حوله هو العكس تماما.

كنا نختلف في بعض الأحيان مع أستاذنا البغدادي، ولا ينزعج الرجل من هذا أبدا، ولا يتعالى في طرحه المختلف مع طلبة في سن أولاده، بل كان يسمع حتى آخر الاعتراض، ثم يبدأ بالرد الهادئ والمنطقي، ومن هنا تعلمنا منه حق الاختلاف.

وفي تغيّر المواقف للبغدادي (ولا أقول تبدل الأفكار)، حيث الكتابة في مجلة المجتمع، ثم الانتقال إلى الكتابة في مجلة الطليعة، فخروجه منها، تعلمنا منه قيمة النقد الذاتي.

وفي مساواته في التعامل بين جميع الطلبة «إناثا وذكورا»، تعلمنا من أستاذنا البغدادي قيم العفة والاستقامة.

وفي عدم تفريقه بيننا كطلبة كويتيين، وبين زملائنا الآخرين، وأكثرهم حينذاك، من الفلسطينيين واليمنيين والعراقيين، تعلمنا من أستاذنا البغدادي قيم العدالة والمساواة. وفي مواقف أكثر مع أستاذنا البغدادي، تعلمنا فيها ومنه، الكثير والكثير من القيم والمبادئ، ولم تفارقنا في ظل هذا كله وخلاله، الطيبة والخلق الرفيع.

رحمك الله «أبا أنور»، وألهم أختنا أم أنور والأبناء الصبر، فمصابهم جلل، كما مصابنا، وعزاؤنا أنك أديت ما عليك في التربية والتنشئة بكل اخلاص، لأبنائك ولأبناء الكويت ولكل متلق لأفكارك وقيمك ومبادئك.

تنويه: قطعنا سلسلة «نحن والعراق» لوفاة الاستاذ الجليل الدكتور البغدادي، وسنعود لاستكمالها في الحلقات المقبلة.

النهار

تعليقات

اكتب تعليقك