‫بقلم / رجا القحطاني: حجرف الذويبي وأسطورية الكرم‬

الأدب الشعبي

الآن 789 مشاهدات 0


بقلم / رجا القحطاني

بطل هذه القصة هو حجرف بن عياد الذويبي أمير شمل بني عمر من قبيلة حرب العريقة.

كان حجرف الذويبي كريماً لا يحيط كرمه حد، سمحاً لايجلو سماحته وصف،اشتعل صيته بين أروقة المنازل المترامية في أرجاء البيد.

كان حديث الركبان في كل مكان،منزله مقصد الأضياف وعابرو السبيل وأصحاب الحاجات ممن أصابتهم أحوال الزمن وأهوال الحياة،،لا يقصده طالب الا عاد راضياً غير خائب،ولا يقبل عليه رجل يشكو فاقته إلا وبلغه حاجته.

ومن الغريب أن الذويبي وهو كبير قومه لم يكن غنيا يستحوذ على مستلزمات الغنى ومقومات اليسار..وليس له موارد متنامية أو ثابته سوى مايحصل عليه من مغانم أثناء الغزوات المتبادلة اذ أن ممارسة الغزو فرضتها متطلبات الواقع وصعوبة المعيشه رغم انها مرتبطة بأخلاقيات الفروسية وقلة الخسائر في الأرواح،،حجرف الذويبي لم يتشرب صفة الجود واجباًاجتماعيًّا ثقيلاً يتوجب أداؤه أيا كانت الظروف بل زاول الكرم صفة تلقائيه تملكه ولا يملكها.
ذلك هو الكرم الحقيقي يتجذر في أعماق الإنسان غايةً وصدق نية، ويتمثل في أسلوب حياته عملاً وفيض أريحية. تلك هي صفة حجرف الذويبي ، يجد لذةً شعوريةً كبيرةً في البذل والإيثار بصرف النظر عمّا يتبع ذلك من مديح وثناء.

وصل به الأمر أن حاول قومه ثنيه عن المغالاة في الكرم لا عن الكرم ذاته غير مرة معتبرين ذلك من قبيل الإسراف في بيئة معيشيةً قاسية ،بينما يراه حجرف طبعاً لايقبل التغيير .

ذات يوم اتفقوا على مواجهته في حدود الأدب لكبيرهم ..خيّروه بين امتناعه عن المبالغة في الكرم والتي جعلته شبه معدم وهو الشيخ الذي ينبغي أن تبدو عليه مخايل الثراء حفاظاً على هيئته الإجتماعية ،أو أن يسمح لهم بالرحيل بعيدا، تألم الذويبي من التخيير الصعب وأبدى لهم حزنه على فراقهم لكنّه لم يحتج إلى طول تفكير ليؤكد لهم اصراره على الالتزام بخُٰلُق العطاء حيث ينجرف إليه وبالأسلوب الذي اعتاد عليه.

ارتحل جماعته بيد أن ارتحالهم لم يكن جفاءً لأميرهم وإنما لقصد آخرسيأتي ذكْره في سياق أحداث القصة.

ظل حجرف وحيدا بعد أن تركه قومه ينادم الذكريات وأيام التصافي واجتماع الشمل و(تعاليل) السمر الشجية حول (الضو) المتوقده في هدأة ليل الصحراء.

شاهدته زوجته على هذه الحال من الحيرة وشدة الاشتياق، بأسلوب حذر ذكرّته أنه السبب في رحيل جماعته ولو استجاب لمشورتهم وخفف من غلوائه في الكرم لما كان الفراق جواباً قاسياً لسؤال لاجواب له.

لكن الذويبي لم ينجذب لكلامها وكأنه استدرك أن صدقه مع نفسه وإخلاصه لمبادئه الثابتة أهم من كل شئ.. 

قام من عندها راغباً في الانعزال إلى نفسه،وذهب يتمشي في جنبات البيداء متفكراً ،متأملاً ،بينما هو كذلك وقع بصره علي أفعى تتسلق شجرة صغيرة حتى إذا بلغت أعلاها اشرأبت برأسها ناحية السماء وتكورت ساكنة لاتبدي حركة،وبينما هو ينظر إليها إذا بطير ضئيل الحجم يحلق فوق تلك الشجيرة ،ثم يحط عليها مباشرة،فتفتح فمها فتبتلعه!.

دُهش الذويبي من هذا المشهد العجيب واقترب أكثر من الافعى فكانت دهشته أشد وقعاً حين رآها عمياء عيناها مغلقتان.

تمتم في قرارة نفسه:سبحان الله الذي رزقها رغم عجزها التام وسخر لها ذلك الطير طعاماً وهي لاتملك حيلة ولا وسيلة ..وازداد حجرف يقيناً أن رازق هذه الأفعي العمياء الضعيفة لاينسى خلقه ويرزقهم من حيث لايحتسبون ولايتلمسون ظنّاً.

انقلب الذويبي إلي أهله فكانت المفاجأة تنتظره في طريق عودته إذ شاهد قطيعا من الإبل السائبة لاصاحب لها محتجزةً في مضيق واد.

أدرك أن هذا رزق يسره الله له فساق الإبل ولسان الحال يقول: لن تبقى بحوزته طويلاً طالما أن هناك ضيفاً يطرق الباب وعابراً يحتاج إلى (زهاب) ومضطراً ينتظر الجواب.

ما أن أقبل الذويبي على منزله حتى فوجئ بعودة جماعته ولم يمضِ على رحليهم سوى زمن قصير.

أكدوا له أن ابتعادهم كان بمثابة اختبار، أيستجيب لرغبتهم أو يتمسك بموقفه ولا يحيد عنه؟ وفي رواية أنه رحل إليهم بعد عثوره على الإبل.. فرح حجرف الذويبي برجوع قومه فرحاً شديداً، وقد قال الذويبي الذي توفي عام 1290للهجرة، قال قصيدة مشهورة من وحي الموقف منها:

يقول ابن عياد وإن بـات ليلـه
ماني بمسكين همومـه تشايلـه
أنا اليا ضاقـت عليـه تفرجـت
من فضل رب ماتعدد فضايله
يرزقني رزاق الحيايـا بحجرهـا
لا خايلت برقن ولا هـي بحايلـه
ترى رزق غيري يا ملا ما ينولني
ورزقي يجي لو كل حي يحايلـه
جميع ما حشنا يجينا به الثنـا
وما راح منا عاضنا الله بدايلـه

تعليقات

اكتب تعليقك