‫داهم القحطاني: كان الشيخ ناصر صباح الأحمد رجلا يفكر في المستقبل وفي تقلبات السياسة والاقتصاد ومن سوء حظ الكويت أن الفرصة لم تُعطَ له مبكراً‬

زاوية الكتاب

كتب داهم القحطاني 301 مشاهدات 0


الشيخ ناصر صباح الأحمد - رحمه الله تعالى - كان على الدوام حاضرا في المشهد الكويتي، لكنه حظي في آخر ثلاث سنوات بتألق غير مسبوق لشيخ في الأسرة الحاكمة، ما جعل وداعه حين انتشر خبر وفاته بمنزلة تكريم شخصي له، وللمعاني العظيمة التي نادى بها، في السنوات الثلاث الأخيرة والتي شهدت نجاحات عدة له في مجال محاربة الفساد والفاسدين.

وللدلالة على الأثر العميق الذي تركه الشيخ ناصر صباح الأحمد، يبرز ذلك عبر قيام مجاميع سياسية وشعبية عديدة لها مواقف معارضة للسياسات الحكومية، تبدي تأييداً شعبياً غير مسبوق لشيخ وزير، وذلك بعد أن تبين لها أن الشيخ ناصر وضع يده على الجرح النازف، الذي تعاني منه الكويت منذ سنين طويلة والمتعلق بتنامي الفساد المنظم.

شغف الشيخ ناصر صباح الأحمد بالتراث والآثار الإسلامية، والذي شاركته فيه زوجته الشيخة حصة صباح السالم، جعل مجموعته الأثرية «مجموعة الصباح» أحد أهم الآثار الإسلامية، حيث تجاوز عدد قطعها 30 ألف قطعة، وأصبحت مرجعاً مهماً في مجال الآثار الإسلامية، حيث أسهم الشيخ ناصر والشيخة حصة في حفظ مجموعة كبيرة من الآثار الإسلامية من الضياع والاندثار، كما أسهما عبر دار الآثار الإسلامية في إيجاد منصة مهمة للأكاديميين والباحثين والمهتمين العرب والأجانب لإطلاق هذه الكنوز الإسلامية في المجالات التراثية والثقافية والأكاديمية.

هذا الشغف جعل الشيخ ناصر صباح الأحمد يربط بين التاريخ والاقتصاد والسياسة، حيث يسجل له أنه من أوائل من تحدثوا عن ضرورة تحديث طريق الحرير من جديد، على أن تكون الكويت من مراكز هذا الطريق الجديدة لتربط أوروبا وأفريقيا بالصين وآسيا.

حديث الشيخ ناصر المبكر عن طريق الحرير، الذي بدأ في تسعينيات القرن العشرين، وربما طرح الفكرة حتى قبل ذلك، تحول مؤخرا إلى مبادرة ضخمة تتبناها الصين عرفت باسم «مبادرة الحزام والطريق»، وتضم دولا عديدة، من بينها الكويت.

ولاحقاً حين أصبح نائبا لرئيس مجلس الوزراء وزيراً للدفاع في عام 2017 تبنى الشيخ ناصر صباح الأحمد مشروع الجزر ومدينة الحرير شمال الكويت، من أجل تحقيق حلمه القديم في جعل الكويت مركزا للربط الحضاري بين القارات، ولتحقق دولة الكويت تحولا حضاريا وثقافيا واقتصاديا غير مسبوق.

وتزامن مع ذلك تبني الشيخ ناصر لمشروع رؤية الكويت 2035 والتي جاءت تحت عنوان «كويت جديدة»، وهي خطة تنمية تستهدف كما في أدبيات الخطة «تحويل الكويت إلى مركز مالي وتجاري جاذب للاستثمار، يقوم فيه القطاع الخاص بقيادة النشاط الاقتصادي، وتشجع فيه روح المنافسة وترفع كفاءة الإنتاج في ظل جهاز دولة مؤسسي داعم، وترسخ القيم وتحافظ على الهوية الاجتماعية، وتحقق التنمية البشرية والتنمية المتوازنة، وتوفر بنية أساسية ملائمة وتشريعات متطورة وبيئة أعمال مشجعة».

كان الشيخ ناصر صباح الأحمد رجلا يفكر في المستقبل، وفي تقلبات السياسة والاقتصاد، ومن سوء حظ الكويت أن الفرصة لم تُعطَ له مبكراً.

ورغم تأخر إعطائه الصلاحيات لتنفيذ هذه الرؤية الطموحة، فإنه استطاع أن يحرك المشهد الراكد، ويحيي الأمل من جديد في ظل مشهد سياسي متأزم ومحكوم بالخلافات السياسية الطاحنة بين غرماء ليس لديهم وقت للنظر في تحديات المستقبل.

في محاولة منه لإيجاد دور سياسي، أصدر مجلة الزمن في تسعينيات القرن الماضي، حيث طرحت المجلة مجموعة من القضايا الجادة، التي يمثل بعضها رؤية الشيخ ناصر صباح الأحمد.

هذه المحاولة انتهت عام 1999 إلى تعيين الشيخ ناصر مستشارا خاصا لولي العهد ورئيس مجلس الوزراء الشيخ سعد العبدالله، لكن الوقت لم يسعفه، حيث مرت الكويت بمرحلة من التقلبات السياسية بسبب الظروف الصحية للشيخ سعد - رحمه الله - إلى أن انتهت تلك التقلبات بتولي والده أمير الكويت الراحل الشيخ صباح الأحمد منصب رئيس الوزراء عام 2003.

ولكن كان على الشيخ ناصر أن ينتظر ثلاث سنوات أخرى قبل أن يجد موقعاً ينفذ من خلاله كثيراً من رؤاه الاستراتيجية، وعلى رأسها مبادرة طريق الحرير.

حين تولى الشيخ ناصر منصب وزير الديوان الأميري، وهو منصب غير تنفيذي، اجتهد لتحقيق بعض الرؤى والأفكار الطموحة، فالرجل حينها كان مهيأً لطرح وتنفيذ الأفكار الكبرى العظيمة، ولا يمكن تحقيق ذلك عبر منصب بروتوكولي لهذا اصطدم مراراً بعوائق عدة، منها اعتراضات بعض نواب مجلس الأمة.

وقد ضرب مثالا رائعا لرجل الدولة الذي يحترم مؤسسات الدولة حين أبدى قبوله للحضور لدى لجنة برلمانية، طلبت حضوره لنقاش حول موضوع يتعلق بالتعويضات البيئية، ولم يرفض أو يحتج بالقول ان منصبه غير تنفيذي.

معركة الشيخ ناصر صباح الأحمد كانت في ملفَي «صندوق الجيش» و«الصندوق الماليزي السيادي»، حيث أبدع رحمه الله في تناول هذين الملفين، وخلق حالة غير مسبوقة من الحشد الرسمي، والبرلماني، والشعبي أثناء توليه المنصب وحتى بعد ذلك إلى أن انتهى المشهد بقيامه بتحويل ملف «صندوق الجيش» إلى النيابة العامة، رغم أنه يتضمن أسماء لوزراء من الأسرة الحاكمة من أبناء عمومته.

نتذكر هنا في جريدة القبس، التي تولت دوراً مهماً في هذه الحملة إعلامياً، كيف ساعد موقف الشيخ ناصر صباح الأحمد وعبر منصبه التنفيذي في تسهيل دور الصحافة في حملاتها المستمرة منذ سنين طويلة في مواجهة الفساد، بدءا من حملة القبس الشهيرة في تسعينيات القرن الماضي، حيث أشعلت القبس بقيادة رئيس تحريرها آنذاك معركة التصدي لسرقة الناقلات، وسرقات الاستثمارات، والتي تتمثل بتوجيه تهم لشيخ وزير، ومسؤولين في شركة الناقلات بالاعتداء على الأموال العامة.

حملة الشيخ ناصر ضد الفساد، التي خلقت له شعبية كبيرة لدى المواطنين، كما خلقت صورة نمطية إيجابية لأفراد الأسرة الحاكمة أظهرتهم وهم يقودون حملات الدفاع العام، بعد أن كانت الصورة مغايرة خلال مرحلة ما قبل توزيره.

الشيخ ناصر دفع الثمن غاليا لحملته ضد الفساد، حيث فقد منصبه كنائب لرئيس مجلس الوزراء وكوزير للدفاع، لكنه بدا متماسكاً ومسروراً لأن المشهد السياسي تغيّر برمته، فأتى رئيس وزراء جديد مشهود له بالنزاهة.

عقب ذلك شهد مكتب الشيخ ناصر صباح الأحمد زيارات عدة لوزراء وشخصيات سياسية وعامة، فيما بدا أنه مباركة لجهوده الإصلاحية مما جعله يعود مرةً أخرى ليشرف على مشروع عمره «مشروع الجزر ومدينة الحرير»، عبر تعيينه مرةً أخرى في المجلس الأعلى للتخطيط والتنمية، حيث أصر على أن يكون نائبا للرئيس بدلا من كونه رئيسا له في الدورة السابقة، والهدف أن تكون أعمال المجلس بإشراف رئيس الوزراء الجديد الشيخ صباح الخالد، وفي ذلك إشارة واضحة من الشيخ ناصر الى أن مشاركته في المناصب التنفيذية والتنموية لم يكن بهدف الوصول الى ولاية العهد، وإلا لما قبل أن يرأسه من هو أصغر سناً من أبناء عمومته.

ما قام به الشيخ ناصر صباح الأحمد من جهود إصلاحية ألهبت حماس الشباب الوطني، فجاء جزء من التغيير الكبير في نتائج انتخابات متأثرا بهذه الجهود التي نقلت معركة محاربة الفساد من الكلام النظري إلى أروقة النيابة العامة.

مسيرة الشيخ ناصر صباح الأحمد، والمكانة الوطنية والشعبية التي وصل لها، زرعتا الأمل لدى جيل كامل من الشباب الكويتي الوطني الذي يؤمن بأن الفساد مهما كبر وعظم فلن يسيطر على الكويت، وأنه إذا كان هناك مواطن يبلغ من العمر 72 عاما، ويعاني من مرض عضال، استطاع أن يهزم الفساد، فإن الشعب الكويتي بقيادة سمو الأمير، وسمو ولي العهد، قادر بإذن الله على مواجهة غول الفساد الذي تعاني منه دول كثيرة، والذي قد يؤدي إلى كوارث كبرى إذا لم نواجهه وضحينا بأغلى ما نملك في سبيل ذلك، تماماً كما فعل الشيخ ناصر حين ضحى بصحته ومناصبه في سبيل وطنه وشعبه.

رحم الله الشيخ ناصر صباح الأحمد وأسكنه فسيح جناته.

تعليقات

اكتب تعليقك