محمد الرميحي: من عجائب السياسة في الشرق الأوسط أن الطرفين المتضادين: إيران وإسرائيل يخدمان الأجندة نفسها
زاوية الكتابكتب د. محمد الرميحي نوفمبر 23, 2019, 8:29 م 690 مشاهدات 0
استنَّت وزارة الخارجية الإماراتية سنة حميدة، بأن تقيم كل عام منتدى نقاشياً بعيداً عن الإعلام، وفي منتجع وسط الصحراء. ويُسمى اللقاء «صير بني ياس» على اسم إحدى الجزر في أبوظبي. يجتمع فيه أهل الممارسة مع المشتغلين بالفكر، وتدار فيه النقاشات على أساس «لا ينسب لقائل قول»، فتتاح الفرصة للحديث غير المقيد في القضايا الساخنة.
عقد اللقاء العاشر الأسبوع الماضي، وكان ثرياً وكثيفاً. شملت الأجندة مساهمة عدد من الرجال والنساء في العالم، من الممارسين في عدد من السلطات الحاكمة في بلدان شرق أوسطية وعالمية، ورجال سابقين في القوات العسكرية. الموضوعات التي طرحت للنقاش متعددة، وأيضاً قيمتها أنها تناولت آراء ومواقف من جوانب عدة، فيها المؤيد والمدافع والشارح والناقد للسياسات التي تمارس في الشرق الأوسط. وفيها أيضاً توقع احتمالات مسار بعض القضايا الساخنة اليوم. طبعاً من الصعب اختيار موضوع واحد للحديث عن مجمل مسار النقاشات. بدا لي أن الموضوع المشترك والذي يتقاطع مع معظم الموضوعات التي ناقشها المنتدى، هو سياسة الجمهورية الإسلامية الإيرانية في المنطقة. فإن كان الحديث عن العلاقة بالولايات المتحدة برزت إيران، أو كان الحديث عن اليمن ظهرت أصابع إيران، أو كان النقاش عن أوضاع العراق أو سوريا أو فلسطين، فإيران وسياساتها هما العمود الفقري في كثير من القضايا المتزاحمة. زاد من أهمية مناقشة دورها ما حدث من انتفاضة داخلية للشعوب الإيرانية التي تتماهى مع انتفاضة اللبنانيين والعراقيين.
من الأوفق اتساقاً مع الموضوعية، عرض ما تفكر فيه إيران شبه الرسمية تبريراً لسياساتها في الجوار، فهي ترى - كما ظهر من الحوار – أنها قد وقع عليها ظلم كبير، يمكن إجماله بالنقاط السبع التالية:
أولاً: يشعر الإيرانيون بأنهم مهما أعلن من واشنطن من رسائل تطمينية، فإن الولايات المتحدة عازمة على «تغيير النظام الإيراني»، وما العقوبات المتصاعدة إلا الطريق إلى ذلك التغيير. تعلن الولايات المتحدة أن «تغيير النظام ليس ما تسعى إليه»، ولكن النخبة الإيرانية الحاكمة لا تشتري تلك التصريحات.
ثانياً: إيران محاطة بمعسكرات أميركية في المنطقة، تلك المعسكرات هدفها الأول هو إيران، مما يُحول شكوكها إلى قناعات.
ثالثاً: العرب كما تقول وجهة النظر الإيرانية، هم من هاجم إيران «في حرب الثماني سنوات». كان النظام العراقي هو الفاعل، وبقية العرب خلفه بالتأييد المادي والمعنوي. وحتى اليوم، فإن العرب يساعدون الجماعات الإرهابية في إيران!
رابعاً: علاقات إيران مع سوريا تاريخية؛ لأنها وقفت مع إيران إبان حرب الآخرين عليها، والآن نحن نقف معها! لأن الهدف في سوريا هو «تغيير النظام من الخارج».
خامساً: كل الحدود الإيرانية «غير آمنة»، وهي عرضة للاختراق من الخارج!
سادساً: إيران هي التي حاربت «داعش» في سوريا والعراق، فإيران ضد الإرهاب!
أما السبب السابع فهو تخوف إيران من «تصدير الوهابية» إليها!
تلك قراءتي للمصفوفة من التبريرات التي عرضت وجهة نظر إيران شبه الرسمية. وقد يعجب المراقب كيف يمكن لعقلاء «هضم هذه المصفوفة»، فإن كان العرب قد حاربوا إيران، فإن سوريا عربية، إذن ليس كل العرب حاربوا إيران! كما أن الوهابية لا يمكن أن تقطع في جماهير تعتنق المذهب الاثني عشري. أما من حارب «داعش» - كما قيل من خبراء في الندوة - فهي القوات الجوية في التحالف الدولي، وقطاعات من ثوار سوريا والجيش العراقي. ومن دون الدعم الدولي لم يكن لـ«داعش» أن يُهزم.
ثم برزت حقيقة أخرى في النقاش عن موقف إيران، عند الحديث عن السياسة الخارجية لجمهورية الهند، وكان أحد الموضوعات التي نوقشت، فإيران تتمدد تحت غطاء «وجود الشيعة في العراق ولبنان والخليج»، ولكن عند الحديث عن الهند فقد وجد أن مسلمي الهند يقدر عددهم بمائة وخمسين مليون نسمة، منهم نحو خمسين مليون من الطائفة الشيعية، عند الاستعلام عن موقف إيران منهم، جاء الجواب: «حاولت إيران في البداية أن تقوم بنوع من التدخل» ولكنها قوبلت بصرامة أن الهند بلاد علمانية، وبعيدة عن «التسيس الديني»، كما أنها لا تقبل بأي تدخل خارجي، فامتنع الإيرانيون عن أي تدخل في الثلاثة عقود الماضية حتى اليوم! إذن الحديث عن «الدفاع عن الشيعة» هي خرافة تصدَّر للبسطاء، أما الحقيقة فهي بسط النفوذ الإيراني على ما يمكن من أرض عربية، وهو نفوذ قومي لا جدال حوله، ولو قوبل الإيرانيون بمثل ما فعلت الهند لكان الأمر مختلفاً.
انسحب النقاش على الوضع الإيراني الداخلي، فتبين أن هناك صراعاً بين النخبة الحاكمة الإيرانية، وهو صراع عميق، وأيضاً محبط، كما شرح متخصصون، فإن النخبة القابضة على الحكم لا تتعدى عشرين شخصاً يتحكمون في مفاصل كل السياسات، وإن السياسة الإيرانية إن كان فيها مكون «آيديولوجي» فهو لا يتعدى عشرين في المائة، أما الباقي - أي الثمانين في المائة كما قال الخبير - فهو «البقاء السياسي» (Political survivor)، ذاك القلق العصابي على النظام، هو الذي شكل الفكرة الأصيلة و«الخاطئة في الوقت نفسه» لدى النظام، والقائلة: علينا أن نحارب في الخارج، حتى لا نضطر أن نحارب في الداخل! الاقتصاد الإيراني بدأ يتفكك أمام العقوبات المفروضة من الولايات المتحدة. كما أن الشقة تتسع بين النخبة القليلة الحاكمة والناس، وقد يتآكل النظام داخلياً بشكل متدرج في غضون السنوات القليلة المقبلة. الوضع الاقتصادي الإيراني الحرج قلل من الدعم المادي لأذرع إيران في المنطقة. جزء من الأزمة اللبنانية العالقة هو تدهور التدفقات المالية لـ«حزب الله» من جهة، والضغوط المفروضة على مجمل الاقتصاد اللبناني الذي يكون فيه الحزب طرفاً من خلال العقوبات الأميركية من جهة أخرى. والحال أيضاً في اليمن الذي يشعر فيه الحوثي اليوم بأن الزخم اللوجستي الإيراني لم يعد كما كان، وهو بانتظار التوقيت المناسب؛ حيث يجيء إلى طاولة المفاوضات، ويبدو أن ذلك ليس بعيداً.
جوهر جدول أعمال المرحلة القادمة، كما سمعت من الخبراء والممارسين، هو الانتقال إلى علاقات إقليمية جديدة. كانت الحرب بين عدد من الأطراف هي سمة المرحلة السابقة، إلا أنها كانت حرباً محدودة، وتفادى الإقليم حرباً واسعة وكبيرة، كان بعض المغامرين في إيران يسعى إليها، ومن الممكن لو اندلعت أن تأكل الأخضر واليابس. اليوم الأجندة اختلفت، وهي ربما سوف تتغير في المستقبل. «القوة الناعمة» آتت أُكلها، وهي أن العقوبات يمكن أن تؤدي إلى نتائج أفضل من الحرب. هي تقنع الأطراف بأن الخسارة من جانبهم فادحة، والجهد من الجانب الدولي تكلفته قليلة.
البحث الآن عن برامج بناء الثقة، والتي لن توجد إن استمر الزعيق المتصاعد حول الآيديولوجيا، فقد ثبت أنها تفقر الشعوب وتصحر العمل السياسي، لذلك يهب اللبنانيون والعراقيون، وأخيراً الإيرانيون، في وجه الآيديولوجيا المحلاة بالخرافة، إلى شيء من الدولة المدنية، التي من الواضح أنها هدف أصيل للشعوب.
آخر الكلام:
من عجائب السياسة في الشرق الأوسط، أن الطرفين المتضادين: إيران وإسرائيل، يخدمان الأجندة نفسها، فكلما ضيق الإسرائيلي على الفلسطيني، أعطى الأكسجين للبروباغندا الإيرانية!
تعليقات