لماذا شعر داروين بتأنيب الضمير؟.. يتسائل حامد الحمود

زاوية الكتاب

كتب د.حامد الحمود 3468 مشاهدات 0

د. حامد الحمود


القبس

لماذا شعر داروين بتأنيب الضمير؟

د. حامد الحمود


حتى من بين المؤمنين بنظرية التطور، التي ترى أن الإنسان والقرد من أصل واحد، تبقى اللغة الصفة الأهم التي تميز الإنسان عن الحيوان. ويبقى ارتقاء الإنسان بتمكنه من التواصل لغويا وكيفية حدوث هذا الارتقاء من أكثر الأمور صعوبة على الفهم. وقد شغل هذا الأمر داروين في منتصف القرن التاسع عشر كما شغل عالم اللسانيات نعوم تشومسكي في منتصف القرن العشرين. وهذا هو موضوع كتاب توم وولف «مملكة الكلام» الذي نشره في 2016 The Kingdom of Speech by Tom Wolf، هذا ويكرس الكتاب فصلين يشرح فيهما الظروف التي أدت إلى أن ينشر شارلز داروين كتابه «أصل الأنواع» بعد أكثر من عشرين سنة على رحلته البحرية التي استمرت خمس سنوات.

ولعل الغالبية العظمى لا تعرف أن داروين اضطر الى أن ينشر الكتاب بعد أن استلم خطابا من شاب إنكليزي لا يعرفه يطلب منه المساعدة في نشر ورقة علمية حول موضوع «الانتخاب الطبيعي» الذي يشرح فيه أن الإنسان والحيوان من أصل واحد. وهو نفس الموضوع أو النتيجة التي وصل إليها داروين، لكن من دون أن يصرح بها لخشيته من ردود فعل الكنيسة. ويبين توم وولف في الكتاب كثيرا من التفاصيل التي جعلت من شارلز داروين مشهورا، وأسباب أن يبقى اسم هذا الشاب الإنكليزي الذي كان يعيش في الملايو نكرة والاسباب التي تدور حول طبقية المجتمع الإنكليزي. حيث ان شارلز داروين كان ينتمي إلى عائلة ارستقراطية عريقة، في حين كان ذلك الشاب – الذي اسمه ألفريد والاس – ينتمي إلى طبقة فقيرة.

وقد أراد روبرت داروين – والد شارلز – لابنه أن يدرس الطب في أدنبره، لكنه فشل، فسجله في جامعة كامبريدج ليدرس اللاهوت، لكنه لم يوفق ودرس الأدب وتخرج بمستوى متواضع، فأراد منه أن يكتشف العالم، فقام بدفع تكاليف رحلته حول العالم على السفينة الشهيرة البيغل Beagle، واستمرت الرحلة من 1831 – 1835. وبعد أن عاد، ألف كتابا دوّن فيه ملاحظاته، لكنه لم يتطرق إلى نظرية التطور. ويشير كتاب توم ولف إلى أن فكرة نظرية التطور بدأت تتكون في عقل داروين بعد أن زار حديقة الحيوان في لندن في عام 1838، أي بعد سنتين من عودته من رحلته البحرية. وبالذات بعد تدقيقه بسلوكيات قرد الأرنغاتون. فمن تعابير وجه القرد والأصوات التي يطلقها ومعرفته أن القرود تستخدم أصواتا مختلفة لكل نوع مختلف من الخطر، بدأ يعتقد أنه حتى اللغة بدأت تتطور في عقل الإنسان بنفس الطريقة. وهي رؤية مخالفة لرؤية كثير من العلماء الذين تقبلوا نظرية نشوء الحيوانات من أصل واحد، لكن بقوا متحفظين على كون الإنسان والحيوان من أصل واحد. وقد بقي شارلز داروين نفسه متحفظا على إعلان نظريته خوفا من الكنيسة، مع اعتقاده أن نظريته هذه ستجعل من اسمه خالدا بين العلماء. لكن في عام 1858 حدث ما جعله يغير رأيه.

ففي عام 1858، استلم داروين ورقة علمية من شاب مغمور يعمل في الملايو، يطلب منه المساعدة في نشر ورقة علمية بعنوان «تطور الأنواع من خلال الانتخاب الطبيعي». وقد ناقش داروين هذه الورقة للشاب ألفريد والاس مع أصدقائه في الجمعية العلمية التي ينتمي إليها، وكانوا يعرفون أن شارلز وصل إلى نفس النتيجة. واقترحوا على شارلز أن يقوم بنشر ورقة علمية بنفس الموضوع في المجلة العلمية التي تصدرها الجمعية لكي يكون له الأسبقية في نشر النظرية. وعندما ظهر إصدار المجلة أعطى موضوع شارلز داروين تغطية أهم. ولما علم الشاب ألفريد والاس بنشر بحثه فرح كثيرا، لكنه استغرب أن شارلز داروين وصل إلى نفس النتيجة بنفس الوقت. والحقيقة أن داروين كان قد وصل إلى نظرية التطور من خلال الانتخاب الطبيعي قبله بسنوات، لكنه خاف أن يصرح بها. فكان تصريحه بها خشية من ألا يحصل على الأسبقية. لكن مع ذلك بقي يشعر بتأنيب الضمير لأن الجمعية العلمية من خلال مجلتها ركزت عليه لكونه عضوا في الجمعية ولمركزه الاجتماعي مما جعله يتودد الى الشاب الفريد والاس بعد أن التقى به. كما أن ألفريد والاس وبعد أن رجع إلى لندن، أخذ يتراجع عن المبادئ العلمية الأساسية لنظرية التطور، مما دعا داروين أن يخاطبه قائلا: لا تقتل الطفل الذي أنجبناه.

وقد ظل تفسير داروين لنشوء المقدرة اللغوية من حيث انه تطور سلوكي متراكم للغة التي يتداولها الحيوان الى منتصف القرن العشرين. وذلك عندما فنده طالب الدكتوراه في جامعة بنسيلفانيا نعوم تشومسكي الذي سخر من تفسير داروين والعالم الأميركي سكينر في نشوء اللغة. فرأى تشومسكي أن تطور اللغة ليس بتراكم سلوكي وإنما لوجود «جهاز» في الدماغ مسؤول عن قدرة الإنسان على التعبير اللغوي وفقا لقاعدة لغوية صحيحة تشترك فيها جميع اللغات.

هذا وإن لم يكتشف العلم هذا الجهاز المستقل فإن الفيزيولوجيا الحديثة اقرب الى تفسير تشومسكي من تفسير داروين. فهناك فعلا اجزاء من الدماغ مسؤولة عن قدرات الإنسان اللغوية.

لذا فلابد أن تكون قد حدثت طفرة بيولوجية Mutation في دماغ الانسان أعطته القدرة اللغوية. والذي قد ينسجم مع قوله تعالى:

إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)

فالأمانة هي العقل واللغة مسؤولة عن تطور العقل.

تعليقات

اكتب تعليقك