محمد المقاطع يكتب.. الإنسان العربي بين الأزمة والثقافة (2)
زاوية الكتابكتب د. محمد المقاطع سبتمبر 5, 2018, 11:53 م 680 مشاهدات 0
القبس
الديوانية- الإنسان العربي بين الأزمة والثقافة (2)
د. محمد المقاطع
إن الدين كان ولا يزال منارة العلم والثقافة والوعي والسلوك الحضاري والإنساني، وإن الانفصام النكد الذي سلكناه لنفرق بين الدين والدولة بانقياد استسلامي هو مكمن «الأزمة» ومصدرها، وهو ما ورثنا حالة اللاهوية والتيه على مستوى الإنسان العربي ومعظم الأنظمة العربية التي أوصلتنا إلى حالة الانهيار، بل والى الدرك الأسفل من الانحدار، الذي نعاني منه في شتى مناحي أحوالنا وحياتنا. فنحن في الحقيقة لا نعاني من «أزمة»، بل أزمتنا «ثقافية المنشأ والآثار» لارتباطها بالانسلاخ عن الهوية والعيش في دوامة البحث في مدونات وثقافات الآخرين عن هوية جديدة نرتديها، وهي ليست لنا ولا ترتبط بِنَا وغريبة عن مجتمعنا، إنها «أزمة الثقافة» والانفصام عن الأصالة الكامنة في الدين (الإسلام)، الذي هو مصدر تميزنا وقوتنا وأصالتنا، نعم أن جل إشكاليتنا هو أزمة التنكر للدين والانفصام عن جوهر إسلامنا، وسنظل ندور في دوامة الضياع طالما سرنا في هذا المسلك رغبة واختيارا أو قهرا وانكسارا. لقد نجحنا في هدم «الإنسان العربي»، حينما جردناه من هويته، وصادرنا حريته، وضيقنا سبل معيشته، وأهدرنا كرامته، واقتحمنا خصوصيته، ودمرنا قيمه، وبددنا طاقته، وقتلنا إبداعه، وغذيناه على التوافه من الأمور بإعلام الدولة وتعليمها وبمؤسساتها المدنية والمراكز الشبابية والثقافية المنمطة، فشوشنا فكره، وعزلناه عن مصدر القوة في هويته وثقافته، وعيشناه غربة في وطنه، فأفسدنا منطقه، وشللنا تفكيره، وأفقدناه موضوعيته، وسطحنا علمه وثقافته بقشور لا تسمن ولا تغني من جوع، فصار معظمه مقلدا أو متعصبا أو تافها أو منحازا أو خاوي الفكر والثقافة، منقطع الصِّلة عن محيطه الحضاري والفكري، يسعى الى التقليد، ولا يعتز بعمق أمته الفريد ــ إلا قلة ربما تسهم بالمجتمع أو تعتزله بسبب أحواله وأجوائه السلبية، فصار تأثيرها إما محدوداً أو لا أثر يذكر لها.
إن أزمة الإنسان العربي هي «أزمة ثقافية»، تم من خلال ذلك الانفصام بناء دولة ومؤسسات هشة، همها الأول إضاعة كيان الإنسان العربي وثقافته، في حين أن كل الحقائق والبراهين تؤكد أن الدول والأمم، التي تمكنت من تجاوز محنها، ونجحت في إقالة نفسها من قلتها (عثرتها) لتعيد بناء نفسها على أسس متينة وصلبة، مثل اليابان، وكوريا، وماليزيا، وتركيا، وسنغافورة وألمانيا، وفنلندا وغيرها من النماذج، فإن أساس تطورها وتقدمها هو بناء الإنسان بشخصيته وقيمه وتعليمه وثقافته وربطه بهويته ومكوناتها، في ظل أنظمة وفرت له أسس التعليم السليم في أجواء من الحريات الإنسانية الطبيعية، وديموقراطية حقة، وحرية للفكر والتفكير، فتحت له آفاق الإبداع في بحبوحة سياسية ومعيشية مشهودة، وتسخير مؤسسات الدولة لبناء الإنسان ودعمه وإكسابه قيمته والثقة بنفسه وبنظام الدولة، وإقصاء كل عوامل هدمه أو تثبيطه، فأشركته باختياره في بناء مجتمعه وإدارته.
أما نحن، فقد سرنا من خلال ذلك الانفصام إلى التفريط بكل ركائز بناء الإنسان العربي، فرضنا العلمانية خياراً سلطوياً، وسخرنا الدولة وأجهزتها لحماية ومعاقبة كل من يخرج عن منظومتها، ففرضنا هوية دخيلة سارت بمسلكين متناقضين لهدم الإنسان، هما إحياء عصبيات فئوية بالية، مثل القبلية أو الطائفية المقيتة، والآخر إلغاء العائلة والأسرة، والعبث بمكوناتها بتغذية صَرْعَات ومظاهر التفلت من الأسرة ومحضنها الطبيعي، فزرعنا ثقافة مستوردة وحميناها، ووجهنا «الإنسان العربي» بمسلك تناقضات جوهرية بين قيمه الأصيلة وهويته الطبيعية، وبين ثقافة وممارسات موجهة دخيلة وغريبة، فأوجدنا صراعاً في كل المستويات تنكب طريق الصواب، لأنه كان يقوض الهوية ويغذي متناقضات في بيئة طاردة، فكان انفصاماً نكداً عن الهوية والأصالة متكلفاً ومفروضاً، وانساقت وراء ثقافة السلطة تلك «نخب مثقفة» عانت من رياح التغيير العاتية عن انبهار متولد من الانكسار والضعف الحضاري والثقافي، وانبهار بالغرب وأطروحاته، أو عن استدراج بوهم اشتراكها في إعادة بناء ثقافة جديدة للمجتمع حتى لو كانت مستوردة، أو من قبل قلة غرتها ثقافتها وتعليمها الحديث، فتبنت فكر التغيير في معية النظام والسلطة فواكبته، وكانت حليفاً له، عن رغبة واندفاع أو ترتيب واقتناع، فأوجدنا صراعاً مجتمعياً بشأن مسلمات وثوابت الهوية، ببدائل هشة ومفروضة، فأضعنا أصالتنا وهويتنا، وهدمنا منظومة القيم الجوهرية، وهو ما لم تقم به الأمم والدول، التي ننظر إليها بأعجاب لتطورها وتقدمها، فقد صانت تلك الأمم والدول هويتها وبعثتها من جديد، ولم تفرط بموروثاتها الدينية والمدنية، وأتاحت لإنسانها أجواء المشاركة المجتمعية الحرة وسخرت تعليمها لبنائه وتكريس القيم لديه، فسار نحو العمل الجاد والإبداع، وهو ما تنكبنا نحن طريقه، فصادرنا الحريات بعد العبث بالهوية، وفرضنا ثقافة نقيضة بدعم ثقافة مستوردة، ففرطنا بالتعليم، وأولها كان إضعاف اللغة العربية وتقليل مكوناتها وتكوينها، وهدر مصادرها الأصلية الدينية والتراثية، فضلا عن إقصاء الأسرة عن القيام بدورها القيمي والتعليمي، وتسخير إعلام الدولة منذ سنة ١٩٣٢ وحتى اليوم، ليبث ثقافة نقيضة وهشة، أوجدت إنساناً عربياً سطحي الثقافة ضعيف التكوين علمياً، يهوى الجدل ولا يحسّن العمل، يطلب المثالية ويلوذ بالاتكالية، لا يقرأ ولا هو مرتبط بتراثه ومصدر أصالته، وهو الدين بعمقه وجواهره، فتسابق الى جدليات حول القشور، لأنه قصر بثقافته أن يدرك عمقه الثقافي والديني، بسبب مناهج عيشته أمية الشهادة بثقافة هشة بعيداً عن القراءة، فعاش يلاحق سراباً لا يسمن ولا يغني من جوع، فسادَ الجد، وانتشر الكسل، وتبددت ثقافة الاختلاف التي هي جوهر ديننا (اختلاف أمتي رحمة)، وانعكس كل ذلك على الدولة ومؤسساتها، فورثنا ضعفاً تلو ضعف عن قصد وتدبير، إلى جواره الجهل والتبرير، وهو جُل ما فرطنا به ونتحمل تبعاته، نعم تلك هي «أزمة الإنسان العربي» التي نعيش دوامتها، فهل للخروج منها من سبيل.
أجل إن إعادة اكتشاف أنفسنا وأحياء هويتنا الإسلامية العربية الأصيلة المتكاملة، وهي ليست متناقضة كما كرس ذلك الغرب فينا، وألهينا أنفسنا وطاقاتنا في تصديق ذلك، وعشنا صراعه بقصد أو من دون قصد، وأقحمنا أنفسنا في دوامة «العلمانية»، وعلمنة الدولة بكل سذاجة وتفريط، ومن ثم علينا تجاوز ذلك بعودة طبيعية لهذه الحقيقة، وينبغي أن يكون ذلك محور بناء الإنسان العربي، وبكل تأكيد الدولة ومهامها، وعلى هذا ومن منطلقاته ينبغي بناء خططنا الاستراتيجية ثلاثينية أو عشرية أو خمسية، فأزمتنا ثقافية من قبل ومن بعد وستبقى. ولعلنا نغفل عن تشخيص وعلاج رباني يخرجنا من «أزمتنا»، بعودة الى «ثقافتنا» بأقصر سور قرآنه الخالدة أيضا، ولما يمكن أن يكون سبباً لأزمتنا ومخرجها في الوقت ذاته. فقد قال المولى عز وجل وما زال قائلاً حكيماً «والعصر• إن الإنسان لفي خسر• إلا الذين أمنوا وعملوا الصالحات• وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر». صدق الله العظيم.
تعليقات