د.فارس مطر الوقيان يكتب عن التشابه بين القضايا التى أثارها مجلس 1938 ومجلس اليوم، ففى الماضى كان الحديث عن كان الحديث عن المشروبات والثلج والتنزيل،
زاوية الكتابواليوم حول المدن الإعلامية ومصافي النفط ومناقصات المقاولات والمتاجرة بالبشر
كتب أغسطس 30, 2008, منتصف الليل 1148 مشاهدات 0
ما أشبه ليل الديمقراطية بالبارحة
د.فارس مطر الوقيان
ما هو معروف عن تجربة الديمقراطية الكويتية أنها تحتل مكانة استثنائية وسط التجارب الديمقراطية بمنطقة الخليج العربي، إلا أنها في الواقع تجربة متعثرة لا تتسم بالصفة التواصلية والمؤسساتية على مر الزمن، وحتى تلك التجارب التاريخية لما قبل الدولة الدستورية لا يمكن تسميتها بتجارب ديمقراطية، بل هي فلاشات أو ومضات ديمقراطية، تخبو قبل أن تحبو، فقيام مجلس الشورى في عام 1921 الذي تشكل من أثني عشر عضواً، تم اختيارهم عن طريق التعيين وليس الانتخاب، لم يستمر سوى مدة شهرين لا أكثر ولم تجن منه الدولة والمجتمع أي فائدة تذكر، والمدهش في شأن هذا المجلس أنه لا يمكن لأحد إعطاء إجابة واضحة وعميقة تفسر لماذا كانت الأسماء الواردة في عضوية ذلك المجلس هي غير تلك التي وقعت على وثيقة المطالبة بقيام مجلس، وهي معروفة وموثقة في كافة الكتب التاريخية؟ فهل يعقل ألا يكتب النجاح لواحد فيهم ليكون من ضمن أعضاء المجلس، وهم الذي تجشموا عناء المطالبة وكتابة الوثيقة؟ ثم كيف ظهرت هكذا أسماء لأعضاء لم يرد لهم أي دور عابر في المطالبة السياسية قبل ذلك التاريخ؟! تساؤلات من هذا النوع، لا تجد لها إجابات عميقة ومقنعة، لابد أن تكون محل تداول بحثي مفصل لبحاثة ومؤرخين، ولاسيما أن ترتيبات المنطق والمنهج البحثي تدلنا على أن الاثنين ينتميان لطبقين مختلفتين، فموقّعي وثيقة المجلس نستطيع وضعهم في خانة الطبقة الوسطى وذوي الدخل المحدود بقياسات ذلك التاريخ، في حين إن الذين احتلوا مقاعد المجلس ولم ترد أسماؤهم في وثيقة المطالبة هم من الصفوة التجارية...
المجلس التشريعي لعام 1938 هو الآخر على الرغم من كونه أحد أهم المواضيع التي لا تقبل النقد والتحليل والتفكيك في الذهنية الكويتية، أصبح الباحث في تفاصيله العميقة أمام أمرين، إما أن يشيد بإنجازاته ودوره التاريخي وإما أن يلوذ بالصمت، إذا لم يقرأ المراقب السياسي أي دراسة موضوعية تتناول سلبياته بتفاصيل تدخل في باب الأمانة العلمية، فنحن قرأنا كتابات تسلط الضوء على انجازاته ومطالباته وأحداثه المأساوية، لكن لم نتصفح دراسة يتيمة واحدة تفسر لنا تلك الانتهاكات الكبرى لقيمة المواطنة باتباع ما يعرف بنمط التصويت الإقطاعي Censitaire كما يسميه موريس دوفرجيه في انتخاب اعضائه، حيث اقتصرت المشاركة على أعداد وشرائح مجتمعية ضيقة لأبعد الحدود لم يكن للحاكم بكل تأكيد أي يد بها، بل بالعكس إن صفة الاحتكار وانتقاء كتلة التصويت، كانت نابعة من التيار الوطني الذي يريد تكريس مفاهيم الديمقراطية والمشاركة السياسية بإدارة السلطة! وهذا ما يفسره التحالف المجتمعي والسياسي الذي تم بين سلطة الحكم وتلك الفئات المحرومة من التصويت!
والمدهش أيضاً في شأن هذا المجلس التشريعي الأكثر تقدمية من سابقه الشوروي، أنه لم نلحظ أي افكار علمية ذات تحليل عميق، تتناول بعض التشريعات التي صنعت هرمية اجتماعية عمودية لا تعترف بالعدالة والمساواة مثل قانون الغوص بما تضمنه من بنود تدخل في باب العبودية ونظام السخرة لأولئك العاملين في مهن دونية بعملية التجارة البحرية والغوص عن اللؤلؤ، وكأن ذلك القانون ببنوده لم يوضع إلا للتنكيل ومعاقبة وملاحقة الغاصة في حياتهم ومماتهم، بتفضيل أبنائهم إما بالعمل بدين آبائهم المتوفين أو بيع بيوتهم!
المطّلع على شهادة أعضاء ذلك المجلس والمشاركين به كالراحل خالد العدساني في مذكرات نصف عام من الحكم النيابي، يكتشف أيضاً بروز المكون الاقتصادي والتجاري كعامل مقرر في إنشاء ذلك المجلس والمطالبة بقيامه، فعلى الرغم من الدوافع الأخرى التي أدت له والمتعلقة بالوعي الوطني الديمقراطي وأهمية المشاركة السياسية التي تقوم على التعددية إلا أنها كانت عوامل ثانوية، فإن جل المطالبات والمناقشات داخل المجلس وخارجه، قبله وأثناءه إنما يحركها التنافس الاقتصادي والتجاري بين الباحثين عن وكالات واحتكارات الثلج والمشروبات والتنزيل وغيرها، لذلك استخدمت مطالب المشاركة السياسية بإقرار المجلس واستخدمت أدوات هذا المجلس لإرساء ما يعرف بالتوازن المجتمعي والتجاري بين كتلة الموالاة للسلطة السياسية وكتلة المعارضة التجارية، كتلة المستفيدين القريبين من سلطة الحكم وكتلة البعيدين عنها...
لماذا تعتبر مسألة العودة لتاريخ المسيرة الديمقراطية في الكويت منذ بداياتها الأولى، مسألة مهمة في الوقت الراهن بعصر الدولة الدستورية؟ لأنه بعدما وصلنا للحال الذي نشكك فيه بقدرة الديمقراطية على انتشالنا من الأزمات المتشابكة الحالية، وبالوقت الذي بات لدينا ديمقراطية بلا ديمقراطيين وفقا لمقولة غسان سلامة، ليس علينا سوى تفكيك مضامين الديمقراطية التاريخية لمعرفة إذا ما كانت لدينا بالفعل تجارب وممارسات ديمقراطية شكلت القاعدة الصلبة لديمقراطية اليوم أم هي مجرد فلاشات بل ومضات ديمقراطية لا تستحق كل تلك الأضواء التي سلطت عليها في كتبنا ومؤلفاتنا، فليس من المعقول أن تتعرض الديمقراطية الحالية لهذا الانحدار والتراجع الرهيب دون ان يكون هناك في الماضي ما يفسر جذور ومسببات هذا الانحدار، فالديمقراطية مثلما هو معروف عنها ليست فقط اعراسا انتخابية ومبنى برلمانيا ونقاشات تشريعية تدور تحت قبته، بل هي قناعات راسخة في العقل يبرهن عليها السلوك والتصرفات والتسويات السياسية والمجتمعية وكيفية ادارة ملف التعايش والاندماج المشترك وفقا لمفاهيم المواطنة الافقية العادلة.
إعادة صياغة وبحث الديمقراطية الكويتية الراهنة بالعودة إلى مقدماتها التاريخية بأثر رجعي مسألة بالغة الأهمية، لأنها في الواقع تنسجم مع مقولة «ما أشبه الليلة بالبارحة»، فنفس المطالبات التي كانت تستخدم المطالبة الديمقراطية والمشاركة السياسية كرأس حربة لتحقيق مصالح تجارية ذات طابع طبقي تطل علينا اليوم بمطالب أخرى مختلفة عن الماضي، ففي السابق كان الحديث عن المشروبات والثلج والتنزيل، والآءن تدور النقاشات حول المدن الإعلامية ومصافي النفط ومناقصات المقاولات والمتاجرة بالبشر وجلب العمالة، وما بين شكل المتاجرة بالبشر الحالية وطريقة التعامل مع الشرائح المستضعفة والمضطهدة كالبدون وذوي الدخل المحدود في كويت اليوم، وشكل احتقار ذوي المهن الدونية في عملية التجارة والبحرية واستبعاد الشرائح المجتمعية الفقيرة من التصويت في مجلس 1938، هناك علاقة عضوية يربطهما منطق تفكير وذهنية طبقية واحدة تقودنا بمحصلة الختام للقول بأن قيام الديمقراطية الكويتية منذ بداياتها الجنينية كان لأهداف طبقية محضة، كي تكون مفصلة على قياسات فئة، شريحة، طبقة، وفي الوقت الذي برزت فيه شرائح أخرى فاعلة تطالب بمكانه، بدور ما لتكريس قيم المواطنة والعدالة.. ظهر لدينا من يريد إحراق الديمقراطية الكويتية كلها من أجل إشعال سيجارته الخاصة التي لا ينافسه أحد في ذاتها.. لذلك فإن مواقف كل واضعي العصا في دولاب الديمقراطية الراهنة من اسلامويين وقبليين وغيرهم يجدون في مواقفهم هذه كل التبريرات بما ان قميص الديمقراطية يضيق باجسادهم الضخمة..
تعليقات