الضمير ووازعه هما الرقيب الدائم!.. بنظر فاطمة البكر
زاوية الكتابكتب إبريل 25, 2014, 12:43 ص 657 مشاهدات 0
القبس
وهج الأفكار / الضمير ووازعه
فاطمة عثمان البكر
• لا يغفل ولا ينام والرقيب الدائم.
روى لي صحافي عربي مخضرم عن لقائه بمحض الصدفة بقاضٍ كبير كان له صيت وشهرة، تقاعد بعد تلك السنوات، التقاه مصادفة، وهو يجلس على شاطئ البحر يتناول قهوته، ويجتر معها ذكرياته كشريط سينمائي، وبحس الصحافي الباحث عن الإثارة والتشويق سأله عن أغرب قضية مرّت عليه، فروى له عن جريمة ارتكبت وأُلقي القبض على القاتل مع كل الأدلة التي تدينه، وبعد محاكمة عادلة مع الأدلة الدامغة والأكيدة اعترف القاتل بجريمته النكراء، وحكم عليه بالسجن المؤبد لمدة 25 عاماً، حكم عليه بهذه الفترة بعد انقضاء كل مراحل التقاضي المتعارف عليها. القاضي كان يشعر بداخله وفي أعماق نفسه بأن هذا القاتل لم يقتل، وربما يكون هناك قاتل آخر، كان ينظر إليه القاتل وهم يقتادونه إلى سجنه المؤبد نظرة أخيرة ارتعش لها بدن القاضي واهتز لها من أعماق نفسه، ولكن الحكم حكم صحيح بالأدلة الدامغة والاعتراف الكامل واستيفاء كل درجات التقاضي، ومضت الأيام والسنون ومرت خمسة وعشرون عاماً، وفي احدى المرات كان القاضي جالساً في احد المقاهي بعد تقاعده، فإذا به يرى رجلاً عجوزاً ملأ الشيب شعره ونحل جسمه يقترب منه، ليخبره بانه هو ذلك الشخص القاتل الذي حكم عليه بخمسة وعشرين عاماً، وانه خرج للتو من سجنه الطويل!
رحب به القاضي وجلس أمامه ليقول له: انك حكمت عليَّ بعدل، ولكنني «بريء»، لم أقتل ولم أرتكب الجريمة، بل انني أتيت الى منزل المقتول وأداة الجريمة كانت موجودة والقاتل هارب، وكما في الأفلام السينمائية العربية القديمة اتُهمت بهذه الجريمة الى جانب اعترافي بالقتل، هل تذكر أيها القاضي الجليل نظراتي لك ونظراتك الأخيرة لي والسجانون يقتادوني الى محبسي الأخير، شعرت بأنك وفي أعماقك تشعر بأنني بريء، تلك النظرة التي ظلت ماثلة أمام ناظري طوال الخمسة والعشرين عاماً التي قضيتها في السجن.
هنا اسقط بيد القاضي واهتز كيانه فبادره بالسؤال: إذاً لمَ اعترفت وكررت تمثيل الجريمة مرات ومرات الى جانب الأدلة الدامغة؟ فرد عليه: نعم لم أقتل، ولكنني ارتكبت جريمة قبل سنوات، قتلت شخصاً في جنح الظلام، ورميت به في قاع النهر، وأخفيت في هذه الجريمة كل أركانها، نعم لقد ارتكبت جريمة، ولكن ليست هذه الجريمة بالذات، وبقيت سنوات وسنوات وأنا أتألم لقد نفذت من حكم القضاء، ولكن القضاء الإلهي ظل ماثلاً في أعماق نفسي، بقي وازع الضمير، ذلك الرقيب الحي الذي لا يغفل ولا ينام، كل يوم يعيد في أعماق نفسي أركان محكمة كاملة لا ترى ولا تسمع ولا تتحدث، بقي الحكم في أعماق نفسي، وما ان حدثت تلك الواقعة وتلك الجريمة حتى كانت لي طوق النجاة للخلاص من عقاب بأثر رجعي، لقد خرجت الآن وأنا أشعر بالراحة للتكفير عن جريمة ارتكبتها، وعن جلد وازع الضمير الذي آلمني سنوات وسنوات.. هل تذكر أيها القاضي الجليل نظرتي الأخيرة، كانت بمنزلة شكر وتقدير ورحمة لي من عذابي الطويل.
اختتم الصحافي المخضرم روايته بعد ان ترك القاضي يتناول قهوته ويجتر ذكرياته، ويبقى الضمير ووازع الضمير هما ذلك الرقيب الدائم.
تعليقات