من الوجود الى تجربة اللغة: هايدغر نموذجاً
زاوية الكتابكتب مارس 5, 2014, 10:21 م 5326 مشاهدات 0
لا يختلف الباحثين في الحقل الفلسفي الغربي على أهمية وتأثير وحضور فلسفة مارتن هايدغر ( Martin Heidegger ) في أعمال مفكري الحداثة وما بعد الحداثة خصوصاً فيما يتعلق بمسألة تقويض الميتافيزيقا التي اعتبرها هايدغر مجرد لغو ليس إلا، فالهزة العنيفة التي أحدثها هايدغر في تاريخ الميتافيزيقا والفكر الغربي عموماً ترتبط أساساً بإعادة موضعته لمفهوم الحقيقة وإعادة التفكير الفلسفي حول طبيعة وماهية العلاقة بين الحقيقة والوجود. كيف ؟
يمكن القول بأن السؤال عن الحقيقة عند هايدغر هو سؤال ملازم للوجود ذاته، فلا يمكن معرفة ما نقصده بالحقيقة دون تقويض التصور الميتافيزيقي للوجود، ذلك التصور الذي عمل تاريخ الفلسفة الغربية على تكريسه وإعادة إنتاجه ضمن ثنائيات وتجاذبات إشكالية عقيمة، فليس مهماً معرفة ما إذا كانت الحقيقة عقلية أم حسية، متعالية أم محايثة، مطلقة أم نسبية، فالمهم بنظر هايدغر هو معرفة الوجود ذاته، في طبيعته وماهيته وحيويته، فالأنطولوجيا تسبق المعرفة، وبمعنى آخر نقول بأن الميتافيزيقا قبل هايدغر قامت على تصور ابستمولوجي مسبق ومتعالي للحقيقة، لكن مع هايدغر أصبح النفاذ للوجود ذاته، أي الوجود بكل امتلاءه وثراءه وخصوبته وحيويته، يقودنا للنفاذ لما يمكن أن نسميه بالحقيقة وكشف مضامينها ومدلولاتها الفلسفية.
اذاً, كيف يتم النفاذ الى هذا الوجود الخصب والحي برأي هايدغر؟
بدايةً فرَق صاحبنا هايدغر بين الموجود والوجود، ولاحظ أن تاريخ الميتافيزيقا الغربية قام على تصور الوجود - أي الميتافيزيقا- من خلال تصور الموجود- أي الطبيعة- ، وأصبح الموجود بهذا المعنى موضوعاً للوجود، أي أصبحت الطبيعة موضوعاً للميتافيزيقا، فانحصر بذلك التفكير الغربي حول هذه المقولة أو حول ما إذا كان هذا الموجود من طبيعة مثالية عقلية أم مادية واقعية، ومن ثم انتج لنا هذا النوع من التفكير حول طبيعة الموجود تلك المذاهب والمدارس الفلسفية الكبرى التي نعرفها اليوم والتي تنقسم في تاريخ الفلسفة والعقلانية الغربية إلى المثالية التي يتزعمها أفلاطون والتجريبية التي يتزعمها أرسطو. وما يعيبه هايدغر على هذا المسار التاريخي المدرسي أو تاريخ الميتافيزيقا هو أن هذه المدارس والمذاهب الفلسفية جاءت لتفضل معرفة الموجود على حساب نسيان الوجود، وهذا الوجود المنسي الذي يقصده هايدغر ليس ذو طبيعة ميتافيزيقية بل هو في حقيقته وجودنا نحن أنفسنا 'في' هذا العالم، لذلك سعى هايدغر في معظم أعماله الفلسفية الى التأكيد على هذا الوجود ذاته بلا رواسب ميتافيزيقية، أي الوجود الذي يكون فيه الإنسان والعقل والذات واللغة جزءًا لا يتجزأ منه.
لذلك تساءل هايدغر عن حقيقة هذا الوجود انطلاقاً من فهم جديد للحقيقة باعتبارها 'لا تحجب' أو انكشاف ( Alêthéia ) أي الحقيقة كانكشاف وتفتُّح على كل إمكانات الكينونة ( L'être ) أو الوجود ذاته. لنتذكر هنا أن مفهوم الحقيقة عند هايدغر هو مفهوم يتجاوز التصور الميتافيزيقي الكلاسيكي للحقيقة والذي ارتبط بالموجود بوصفه موضوعاً للميتافيزيقيا، أي ان تصوره لها أصبح من الآن فصاعداً تصوراً أنطولوجياً ومستقلاً في نفس الوقت عن المفاهيم التي كرستها الميتافيزيقا حول مفهوم الحقيقة بارتباطها الحتمي بمفاهيم الصواب والخطأ أو الصدق والكذب. والعلاقة بين الحقيقة كتكشّف أو 'لا تحجب' وبين الوجود كتجلٍ وتمظهر لهذه الحقيقة يقودنا حتما إلى سؤال مهم عند هايدغر وهو أين تكمن هذه الحقيقة؟ كما ان هذا التساؤل يقودنا بالمقابل وبطريقة عكسية الى سؤال آخر : أين يكمن الوجود؟
يقول هايدغر - في رسالته حول الإنسانية - 'اللغة هي بيت الوجود'، فإذا كان الإنسان عند أرسطو حيوان عاقل فهو عند هايدغر حيوان لغوي. لذلك لا يمكن فهم الوجود إلا من خلال ميدان اللغة، لأن مهمة اللغة عند هايدغر هي مهمه محدده وجوهرية ومن شأنها أن تضعنا مباشرة أمام العلاقة بين الحقيقة (كأليثيا) أي كفعل انكشاف لما هو محجوب في التجربة الإنسانية وبين الوجود ذاته لكن لا باعتباره تصوراً ميتافيزيقاً صرفاً.
لندخل في الرهان ونقول بأن هايدغر يشدد دوماً على ان السمه الجوهرية لكينونة الإنسان هي في كونه 'كائناً قائلاً' أو في كونه كائناً متكلماً، لكنه في نفس الوقت يفرق بين اللغة ذاتها وبين الكلام. فالكلام عنده إما كلام مُقال أو منطوق نتلفظ به ويتجسد عبر الصوت والكتابة أيضاً. أو كلام غير مُقال أو غير منطوق أو بمعنى أصح الكلام 'المسكوت عنه' الذي لا يمكن سماعه بالصوت، وإنما 'بفعل الإنصات'. ومن الواضح هنا أن هايدغر هو أحد أولئك الفلاسفة الذين وجهوا العمل التأويلي الفلسفي لهذا المسكوت عنه في الكلام أو في اللغة بوجه عام وجعل أداة 'استنطاق' المسكوت عنه يكمن في فعل الإنصات أو ' الحفر بصمت' في هذا المسكوت عنه لكي نتمكن من 'الإنصات لنداء الحقيقة والوجود' - كما يردد دوماً- والذي لا يظهر ببساطة في الكلام المنطوق أو السياق اللغوي. وهذا يعني أن الكلام ليس فقط وببساطة تلك المقدرة على البوح بل هو أيضاً القدرة على الصمت اي أنه جعل من هذا الصمت أو السكوت مجالاً أو عنصراً جديداً من عناصر اللغة والفلسفة على السواء.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، ليست اللغة - بعمومها- مجرد وسيلة أو أداة للتواصل بالمعني النمطي والتقليدي الذي تكرسه فلسفة اللغة في الفكر الغربي، وإنما هي سياق من الرموز والأفعال وهي تتحدث كذلك من خلالنا، ' فالإنسان - كما يقول هايدغر- مكتنفا داخل اللغة وباللغة'، وهذه اللغة أي اللغة بوصفها سياقاً من المدلولات الرمزية تظل عائقاً أمامنا وتمنعنا من الإفصاح عن الغير مُقال أو الافصاح عن الحقيقة كقول أو كشيء لا متحجب، بل ان هذا السياق اللغوي يجعل من 'اللا متحجب' ذاته متحجبا بسبب إكراهات هذه الرموز والسياق اللغوي الذي يفرض نفسه علينا فرضاً ويجعلنا بالتالي نتحدث وفق شروطه الخاصة. من هنا وجه هايدغر التحليل الفلسفي الى البحث عن نوع من ' اللغة' يمكننا من اختراق وكسر منطقة الصمت في السياق اللغوي واكراهاته ويمكننا بالتالي من النفاذ الى أصل الكينونة التي تجعل من الحقيقة مجالاً للا تحجب والانكشاف.
يتمثل هذا النوع أو هذا الشكل من اللغة في التجربة الشعرية التي تأتي كميدان أو كتجربة تتقاطع وتتمفصل من خلالها اللغة ذاتها بالوجود والحقيقة كأليثيا، واذا كانت اللغة مسكن الوجود فالشعر هو أيضا عند هايدغر 'أصل' اللغة، ويبدو أن هايدغر مدين هنا لنيتشه الذي سلط الضوء على المُنجز أو المقدرة الفنية في الشعر والموسيقي في فهم الوجود، بل أن فلسفة نيتشه ذاتها والتي تأثر بها هايدغر أشد تأثير جاءت في قالب شعري، كما أن هايدغر وجد في الشاعر الألماني هولدرلين، الذي أصيب بالجنون، أفضل تعبير عن الشعر 'كتجربة استثنائية في اللغة' لذلك اعتبر هايدغر أن مكانة هولدرلين في الشعر الألماني هي كمكانة هوميروس في الشعر اليوناني.
نعود ونقول بأن الشعر عند هايدغر ليس قولاً مُرسلاً فحسب، بل هو تجربة انسانية أصيلة وعميقة، انه تجربة اختراق يعيشها الشاعر في صميم اللغة كسياق أو كشفره أو كحزمة من الرموز بحيث تعمل وتحاول هذه التجربة الشعرية على اختراقها وتجاوزها. وبهذا المعنى تأتي محاولة تجاوز هذه اللغة من خلال التجربة الشعرية كنموذج جاد لمحاولة تجاوز الميتافيزيقا ذاتها وبكل إكراهاتها, لأن السياق اللغوي يعيد ويجتر التقسيمات الميتافيزيقية على الدوام ويعمل بالتالي على تكريس الميتافيزيقا ذاتها من جديد، لكن الشاعر الهايدغري ان صح الوصف ليس ذلك الذي يستطيع أن يتكلم فقط بل هو الذي يستطيع الخروج والانعتاق من هذا السياق اللغوي للتقسيمات والتجاذبات الميتافيزيقية بحيث 'يُفصح' عن المسكوت عنه أو عن الحقيقة كلاتحجب، أي هو ذلك الذي يستطيع أن يجعل من اللغة كائناً حياً يتحدث من خلالنا لا العكس، وعندما تتحدث اللغة من خلالنا أي من خلال الكينونة الانسانية تظهر اللغة بذلك كل امتلاءها وخصوبتها وتظهر في ذات الوقت كل امتلاء التجربة الانسانية، وبكلمة نقول بأن الشاعر الهايدغري هو ذلك القادر على أن يجعل اللغة تقف بإزاء حدودها الأنطولوجية التي تضعها وتُحيكها التجربة الانسانية ذاتها.
اذاً فالشعر بالمعنى الهايدغري وكتجربة إنسانية في اللغة لا يعنى مجرد المقدرة اللغوية في نظم الكلام ولا يعني كذلك وبالمعنى الحصري صورة من الصور الجمالية الرتيبة للغة، بل هو مقدرة فريدة تتحقق فيها - ومن خلالها- ماهية اللغة كتجربة انسانية عميقة بوصفها 'محاولة إفصاح' للمسكوت عنه - أو كأليثيا- أي افصاح وكشف للحقيقة. وهذه التجربة الشعرية باعتبارها 'تجربة اختراق' للغة - وفي اللغة - هي تلك التجربة التي عايشها كثير من الشعراء والفلاسفة مثل هولدرلين وجوته ونيتشه وانتونيو آرتود، بحيث لم تسعفهم اللغة النمطية ذاتها وبكل ما فيها من مخزون معجمي ورمزي من التعبير والافصاح عن تجاربهم الإنسانية العميقة، فعاشوا - بالتالي- في صميم هذه التجربة أفكاراً غير قابلة للنقل والترجمة عن طريق اللغة ذاتها، أي انهم عاشوا تجربة فريدة عبقرية 'في' اللغة غير قابلة للنقل والترجمة 'من خلال' لغة نمطية معجمية تحمل في طياتها سلطة الإكراه، بحيث لا تسعفهم الكلمات المألوفة برسمها وتحديدها كتجربة استثنائية، فدفعتهم هذه التجربة الاختراقية لاتخاذ 'موقفاً حدّياً وجودياً' أخذ عند بعضهم شكل الهذيان أو الجنون بوصفة لغة نقيضاً للغة، أي تجربة لغوية تدفع بالكينونة الانسانية لتفجير اللغة ذاتها وخلخلتها من الداخل ومن ثم قلبها ونحتها واللعب بألفاظها للخروج من قلق التجربة الشعرية كتجربة 'ألم ومعاناة' في صميم اللغة والثقافة على السواء، إنها بمعنى آخر تجربة التناقض والاضطراب والقلق 'في' الوجود الإنساني 'بإزاء' الحقيقة والوجود ذاته.
تعليقات