مشكلة مصر مع الاخوان بدأت بإدخال العنف للعمل السياسي.. بنظر خليل حيدر
زاوية الكتابكتب سبتمبر 12, 2013, 12:56 ص 1103 مشاهدات 0
الوطن
أفكار وأضواء / عنف الإخوان.. واغتيال المرشد
خليل علي حيدر
بدأت مشكلة مصر مع الاخوان المسلمين منذ بداية ادخال مرشد الاخوان العنف إلى العمل السياسي. لا العنف وحده، بل ضمن تنظيم سياسي سري، ومنظمة منغلقة، ينفذ فيها الاعضاء الاوامر ثم يناقشونها.. ان وجدوا الوقت!
كان مرشد الاخوان «حسن البنا»، كما بيّن مؤرخ الاخوان المعروف «محمود عبدالحليم»، وكما ذكرنا في مقال سابق، مغرماً بالقوة البدنية والنشاط العسكري ومظاهر التسلح، «ورسم في ذهنه صورة لوسائل ابراز حقيقة الدعوة الاسلامية فوجد ان هذه الصورة لا تكتمل الا بوجود مظهر للقوة البدنية». وانتهى به الامر مؤقتاً، كما ذكرنا، بتوزيع البنادق الخشبية على الاخوان كي يتدربوا في فناء دار الاخوان.. على السلاح! وذلك تحت اشراف احد العسكريين، ربما من أنصار أو اعضاء الجماعة.
ومما يحتاج الى بحث تاريخي في مقال لاحق، طبيعة وشروط ترخيص جمعية مثل «جمعية الاخوان المسلمين»، بموجب القوانين المصرية آنذاك، وما المسموح والممنوع فيها، ولا استبعد ان يكون الاخوان في غمرة حماسهم ومصالحهم وجو الصراع السياسي قد تجاوزوا أية موانع قانونية كانت ستحد من تطلعات زعيمهم المنغمس في صراعات الدولة والنظام الملكي. ونحن نرى ان مشروع قانون الجمعيات الاهلية المعدل الذي اقرته الحكومة المصرية عام 1945، وسط معارضة الاخوان الشديدة، ينص في المادة التاسعة على انه «لا يجوز للجمعية ان يتجاوز نشاطها الغرض الذي أنشئت من اجله». كما تقول المادة العاشرة صراحة، «يحُظر على الجمعية ان يكون لها تشكيلات عسكرية او شبه عسكرية ». [الاخوان المسلمون، عبدالحليم، جـ 2، ص 185]. ولكن ما يلفت النظر، عدم اكتراث «مؤرخ الاخوان» الداعية محمود عبدالحليم بهذا الجانب، رغم ما جرّه العنف والتسلح على الاخوان والاسلاميين عموماً فيما بعد، وبخاصة وان كتابه الكبير، صادر عام 1983، وبعد تنامي العنف في مصر ولبنان وغيرهما واغتيال السادات.
كانت طموحات المرشد البنا وموقفه من تمجيد العسكرة والتنظيمات الشمولية على المستوى العالمي، اوسع بكثير من مجرد التدرب على البنادق الخشبية! وهذا ما يوثقه بدقة د. زكريا سليمان البيومي، في كتابه «الاخوان المسلمون والجماعات الاسلامية في الحياة السياسية المصرية 1948/1928»، القاهرة: مكتبة وهبة، 1979، وهي رسالة دكتوراه قدمت لجامعة عين شمس.
يقول د. البيومي انه ظهرت في مصر قبيل الحرب العالمية الثانية وخلالها، تيارات محدودة متعاطفة مع دول المحور، المانيا وايطاليا واليابان، وقد كان بعضها يتعاطف لمجرد ان الالمان خصوم الانجليز، ولكن وُجدت ايضاً تيارات وجماعات، يضيف البيومي، «ابدت اعجابها بالنازية والفاشستية كنظام، واعتقدت من خلال هذا الاعجاب ان اصلاح مصر يحتاج الى هذا النظام الذي كان يقوم على فكرة الزعيم المصلح، ومن بين هذه الجماعات الاخوان المسلمون التي لم تخف اعجابها بهذا النظام، فيصف البنا كلاً من هتلر وموسوليني بقادة النهضات الحديثة». [ص 192، عن مجلة الاخوان المسلمين، 10 جمادى الثانية 1352 هـ - 1933].
وبررت جماعة الاخوان ذلك الاعجاب، «بموقف هذه الانظمة من الدين الذي ارتكزت عليه في محاربة الشيوعية، وكذلك لمعاداة هذه الانظمة للنظام البرلماني الذي كان يعارض البنّا اسلوبه القائم حينئذ في مصر». ومن اقواله في بعض مقالات مجلة الاخوان في 1936/12/19، «تحتاج الأمم الناهضة الى القوة وطبع ابنائها بطابع الجندية ولا سيما في هذه العصور التي لا يضمن فيها السلم إلا الاستعداد للحرب، ورأينا اساس فاشستية موسوليني ونازية هتلر وشيوعية ستالين اساساً عسكريا بحتاً». ويؤكد البنا اعجابه بهذه الانظمة في مذكرة رفعها الى محمد محمود باشا رئيس الوزراء قال فيها: «لقد اجتمعت الدول على ادانة موسوليني فماذا فعلت له؟ ولقد تهكمت اوروبا بهتلر حيناً من الدهر فماذا نالت منه؟ لا قيمة للكلام يا سيدي الباشا. ومن الامور التي التقت فيها دعوة الاخوان مع النظام الفاشي النازي، يقول د. المنوفي، اخذ جماعة الاخوان «بنظام القوة والتشكيلات العسكرية، وكذا الدعوة لتوحيد القوى وإلغاء الاحزاب السياسية وتركيز الحكم في يد فرد واحد يدين له الجميع بالولاء والطاعة». ونسب الاخوان هذه النظريات في الحكم، يختتم د. المنوفي كلامه، «الى النظام الاسلامي». [ص 194].
وكل هذا يؤكد ان المخرج الذي تصوره مرشد الاخوان لمصر من واقعها، لابد ان يعتمد الى حد كبير على قيادة مطلقة اليد والسلطة سياسياً، دون محاسبة حزبية مُعارضة، او ضغوط واستجوابات برلمانية اولاً، وعلى تعبئة جماهيرية وحزبية دينية وعسكرية عقائدية في هذا النظام الشمولي ثانياً، وان يتم بناء «طلائع وقيادات» جماعة الاخوان، وربما الجماعة كلها، لتكون السند الشعبي والديني لمثل هذا النظام ثالثاً.
ونعود الى احداث الجزء الثاني من العام 1948 المليء بالاحداث المؤثرة في مصير جماعة الاخوان، حيث اكتشفت الحكومة خلال شهر اكتوبر مخبأ للاسلحة والذخيرة في عزبة الشيخ محمد فرغلي قائد فرقة الاخوان المسلمين في فلسطين، وفي عصر يوم 15 اكتوبر وقفت سيارة جيب امام احد المنازل بالقاهرة وصادف ذلك مرور دورية من رجال البوليس الذين لاحظوا ان السيارة لا تحمل رقما وانها محملة بصناديق خشبية، فاتجهت الشرطة الى راكَبيْ السيارة اللذين ما لبثا ان سارعا في الهرب، ولكن الجماهير التي تجمعت حول صياح الشرطة «صهيونيون صهيونيون..» امسكت بالرجلين قريبا من المكان، ولم تمض دقائق قليلة حتى اثار شخص ثالث يحمل حقيبة اوراق في طريقه الى ما كان بالضرورة موعد لقاء، فأثار شبهة الجماهير، فأوقفوه ايضا وقُبض عليه بواسطة الشرطة، ثم وُجد ثلاثة آخرون بمسكن الشخص الثالث وكان ذلك مكان اللقاء. وفي ظرف ساعات قلائل بلغ عدد المقبوض عليهم اثنين وثلاثين شخصا، وكانت الاوراق والمستندات التي وجدت بالسيارة والحقيبة، والتي عثر عليها في مذكرات الافراد ومحافظهم وسجلاتهم الخاصة في منازلهم اول دليل انبأ عن وجود «الجهاز السري» للاخوان المسلمين.
ويضيف «ميتشل» في عرضه لتسلسل هذه الاحداث، ان الحكومة المصرية جمعت من كل هذا، مضافا اليه ما استخلصت من ادلة جمعتها من المقبوض عليهم في شهر يناير من تلال المقطم، ومن قضية مقتل «الخازندار» في شهر مارس، ومن الاسلحة المصادرة في عزبة فرغلي في اكتوبر، مادة لأول قضية خطيرة ضد الجمعية وما كان تمهيدا لحلها.
وفي 28 نوفمبر قبض على البنا الذي كان غائبا عن البلاد معظم اكتوبر واوائل نوفمبر مؤديا فريضة الحج، وكان القبض عليه بناء على ادلة وجدت في سيارة الجيب، ثم افرج عنه بعد وقت قصير، وبذل جهدا في تهدئة الجو بين الحكومة وجمعية الاخوان المسلمين.. ولكن الحوادث تسارعت.
ففي 4 ديسمبر قامت تظاهرات كبيرة في الجامعة قتل خلالها رئيس شرطة القاهرة بقنبلة يدوية كان الطلبة يقذفونها من اسطح كلية الطب، واتهم الاخوان في قتله.
وقد اعقب هذا الاتهام تعطيل صحيفة الجمعية، ثم صدر قرار وزير الداخلية بحل جمعية الاخوان في 6 ديسمبر، ووضعت اموال الجمعية في يد مندوب لوزارة الداخلية ليوزعها على «جهات البر والخدمة الاجتماعية وحسب تعليمات وزارة الشؤون الاجتماعية. وكان تعليق مجلة «آخر ساعة» على ذلك الحدث، وكانت صحيفة الحكومة السعدية آنذاك، بقولها «ان الحكومة قد قضت على جماعة كانت بمثابة اشد خصم لها، اذ لم تكن مجرد حزب بل كانت اشبه ما تكون بدولة لها جيوشها ومستشفياتها ومدارسها ومصانعها وشركاتها».
ولكن السلطات لم تعتقل مرشد الاخوان الذي ظل طليقا، وواصلت الحكومة برئاسة النقراشي باشا طريقها حتى يوم 28 ديسمبر، حيث تم اغتيال النقراشي عندما كان داخلا الى وزارة الداخلية، اذ حياه شاب مرتديا ثياب ضابط ثم اطلق عليه رصاصة اصابته في ظهره واخرى في صدره حينما استدار ليواجه مهاجمه، وما لبث النقراشي ان مات بعد دقائق قليلة من الحادث. اما القاتل «عبدالمجيد احمد حسن» فقد كان يبلغ من العمر ثلاثة وعشرين سنة، وكان عضوا بجمعية الاخوان المسلمين منذ عام 1944، كما كان طالبا بالطب البيطري في السنة الثالثة، وقد حضر دروس ومحاضرات الجامعة حتى اليوم السابق على الحادث. وقد صاحب الحزن الذي ساد جنازة النقراشي صيحات تهديدية مريرة، صدرت من اتباعه منادين بـ«الموت لحسن البنا».
وحاول البنا ان يهادن رئيس الحكومة الجديد «ابراهيم عبدالهادي» الصديق المقرب للنقراشي ورئيس الديوان الملكي، وعرض البنا ان يقدم عونه الى الحكومة لاعادة النظام والامن وذلك نظير رفع الحظر عن جمعية الاخوان والافراج عن اموالها المصادرة واطلاق سراح الاعضاء المعتقلين، كما كتب البنا بموافقة الحكومة نشرة بعنوان «بيان للناس»، استهجن فيها اغتيال النقراشي. ويبدو ان البنا كان يستهدف اطلاق سراح زعماء الصفوف الثانية والجهاز السري، وكانوا وحدهم القادرين على اعادة نوع من النظام في سلسلة التكوين الاخواني والسيطرة عليه. ثم تقوضت المفاوضات عقب محاولة لنسف بناء المحكمة التي احتوى على ملف تحقيق سيارة الجيب، بتفجير قنبلة فيه. وسارع البنا من جديد الى استنكار الحادث في كتاب مفتوح لوزارة الداخلية، وتضمن الكتاب عبارة عن مقترفي العنف آلمت اتباعه واغضبتهم، اذ وصفهم فيها بأنهم «ليسوا اخوانا وليسوا مسلمين». توقفت الاتصالات بين البنا والحكومة في اواخر يناير 1949، إذ رأى رئيس الحكومة إبراهيم عبدالهادي أن القضية هي تحطيم الجهاز السري قبل أن يتمكن من القيام بأعمال عنف جديدة.
وفي هذه الأثناء كتب البنا رسالة «القول الفصل»، بعد أن يئس من تسوية الأمر مع الحكومة، ووزعت الرسالة في الخفاء، حيث أنكر البنا جميع التهم التي وُجهت لجمعية الإخوان، معتبراً إياها من المفتريات والحوادث المحرّفة، وعبر عن احتجاجه الشديد على تعذيب المعتقلين من الإخوان وقال إن الأسباب الحقيقية لحل الجمعية «الضغط الأجنبي والاستعداد لإجراء مفاوضات مع البريطانيين والصهيونيين، والرغبة في صرف الأنظار عن الفشل في فلسطين والاستعداد للانتخابات القادمة».
وكانت هذه الرسالة آخر ما كتبه مرشد الإخوان، إذ قُتل قبيل غروب الشمس في 12 فبراير 1949، بعد أن تلقى استدعاء مجهولاً إلى المركز العام لجمعية الشبان المسلمين. وإزاء مبنى الجمعية، وعلى قارعة الطريق أطلق عليه الرصاص بينما كان يهم بركوب سيارة أجرة، مات بعدها بدقائق في أحد المستشفيات القريبة. ويقول الإخوان إن الوفاة حدثت، كما يقول د.محمد الترميني، «بسبب النزيف إذ امتنع الطبيب المعالج أن يزوده بالدم خضوعاً للتعليمات العليا». [ميتشل، ص164].
وقعت الحكومة المصرية آنذاك في خطأ قاتل:
فقد ردت على إرهاب الإخوان.. بإرهاب من أجهزة الدولة!
وحمل البنا إلى قبره تحرسه الدبابات والسيارات المصفحة. ومرة أخرى، كان مكرم عبيد القبطي الشخص الوحيد الذي تحدى الحكومة واخترق صفوف الشرطة المحيطة بمنزل المرشد القتيل، ليصحب أفراد أسرته الذين سمحت لهم الحكومة بحضور الجنازة.
وفي 5 مايو 1949، يقول ميتشل، حدث الاعتداء الذي طال ارتقابه على «عبدالهادي» رئيس الحكومة. فقد ترصدت جماعة من الإخوان له في مكان مختار بعد أن درسوا بعناية تحركاته من منزله بالمعادي، وأطلقوا فيضاً من قنابلهم على السيارة التي يقلها، ولكنه نجا من كل إصابة، وقد قبض على عشرة من أعضاء الجمعية في الحال.
كان هذا آخر حدث خطير في ذلك الوقت، وعندما غادر إبراهيم عبدالهادي كرسي الحكم في 25 يوليو 1949، بلغ عدد الإخوان في معتقلات الطور وهاكستيب وعيون موسى حوالي أربعة آلاف معتقل، خلال هذه السنة التي تعقدت فيها الأزمات، والتي هزت كيان الجمعية من أساسه.
وقد ظل قاتل النقراشي الشاب عبدالمجيد أحمد حسن رافضاً إرشاد السلطات إلى شركائه. على أن حادث تفجير قنبلة المحكمة في 15 يناير كان نقطة تحول. إذ أدى استنكار «البنا» للحادث، ولومه العلني للأعضاء، مضافة إلى هذا فتوى العلماء التي وصمت الحوادث بأنها ضد الإسلام، فأدى ذلك إلى انهيار الروح المعنوية للشاب، ليبدأ سلسلة اعترافات سرعان ما أوصلت إلى القبض على شركائه في الجريمة. وقد اعترض الدفاع في المحكمة بادئ الأمر بجنون المتهم، ثم دافع عنه بحجة تأثره بتعاليم «الجهاز السري»، ولكن المحكمة رفضت كلا الدفاعين وحكم على الشاب بالإعدام، فنفِّذ في 25 إبريل 1950.
أما عن اغتيال مرشد الإخوان حسن البنا، والذي كان أمراً مدبراً من السلطات دون ريب، أو على الأقل مرضياً عنه من رئيس الوزراء، وإن تم على يد أعضاء البوليس السياسي، فلم يقدم الذين اشتركوا في الاغتيال إلى المحاكمة إلاّ حين أعاد ضباط الجيش التحقيق في القضية بعد ثورة 1952. وفي عام 1954 صدرت الأحكام على المتهمين الرئيسيين الأربعة: فحكم على المتهم الرئيسي في الجريمة، أحمد حسين جاد بالسجن المؤبد مع الأشغال الشاقة، وحكم على ضابطين آخرين هما محمود عبدالحميد ومحمد محفوظ بالسجن خمسة عشر عاماً، وعلى ضابط آخر هو محمود الجزار بسنة واحدة.
تعليقات