اتفاق براغماتي يغير وجه أوروبا ويقسم الإتحاد الاوربي الى قسمين بقلم فيصل جلول
الاقتصاد الآنديسمبر 14, 2011, 11:11 ص 2122 مشاهدات 0
من المعروف على نطاق واسع أن الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي لا يميل إلى الحب العذري في علاقاته النسائية الشخصية، فهو مطلاق مزواج وغير ممتنع إذا كان بين المنزلتين، وقد لا تختلف حاله في الاقتصاد والسياسة، فهو لا يبدو أيضاً شديد الاخلاص لحلفائه الأوروبيين الأساسيين، وبخاصة الثنائي الألماني - البريطاني . فقد عمل بوضوح على تهميش الدور الألماني في الحرب الأطلسية على ليبيا، وفي حصر إدارة الأزمة الليبية بالاتفاق مع رئيس الوزراء البريطاني دافيد كاميرون، الأمر الذي أيقظ الحنين إلى ماضي الغزو الخارجي المشترك بين البلدين وذكرياته الحسنة والسيئة معاً، ومن بينها الغزو الشهير في خمسينات القرن العشرين في قناة السويس المصرية . وقد أشيع على هامش الإدارة الفرنسية - البريطانية المشتركة للأزمة الليبية أن الثنائي الفرنسي - البريطاني يهمش ألمانيا ويلقي بثقله على التوازنات داخل الاتحاد الأوروبي، بيد أن عمر هذه الشائعة لم يكن طويلاً، فما أن أطلت الأزمة الاقتصادية الأوروبية برأسها مجدداً عبر المخاوف من الدين الإيطالي والركود الإسباني، وتجدد الانهيار اليوناني، حتى تخلى الرئيس الفرنسي عن شراكته مع بريطانيا التي حققت غرضها ليقترن أوروبياً مع المستشارة الألمانية إنجيلا ميركل، وهذه المرة بشروط ألمانية في حين كان زواج “المتعة” مع بريطانيا قبل شهور معدودة بشروط فرنسية .
وبخلاف “الزيجات” السابقة، يبدو أن التحالف الألماني - الفرنسي في أوروبا سيكون أقرب إلى الزواج “الكاثوليكي”، وهو ما يفسر رد الفعل البريطاني اليائس، بل الافتراق البريطاني للمرة الأولى عن الطرفين اللذين تدور حولهما حركة الاتحاد الأوروبي . واللافت في هذا الصدد هو تعليق الحكومة البريطانية على الاتفاق الأخير، إذ قالت إن لندن ستبقى في الاتحاد الأوروبي ما بقيت مصالحها قائمة، ما يعني أنها يمكن ألا تبقى إذا ما همشت أكثر، وهو أمر وارد بنسبة كبيرة إذا ما تعمق التحالف الألماني - الفرنسي، وإذا ما اتجه الاتحاد الأوروبي إلى مزيد من الفيدرالية التي لا تتناسب تماماً مع المزاج البريطاني الذي كان يتميز دائماً بالرهان على الاتحاد الأوروبي وعلى الولايات المتحدة، بحيث تستفيد بريطانيا من الأفضليتين الأطلسيتين .
والجدير بالذكر أن فرنسا استجابت الأسبوع الماضي للضغوط الألمانية الرامية لحل الأزمة المالية الأوروبية وإنقاذ اليورو من الانهيار، وقد وقع الطرفان على مشروع قرار يجيز للدول الأعضاء في العملة الموحدة أن توقع على وثيقة تأسيسية جديدة تتيح خلق منطقة يورو أقرب إلى الفيدرالية منها إلى الدول المستقلة، وعليه سيكون الاتحاد الأوروبي بعد هذه الوثيقة أشبه باتحادين وسيجري العمل فيه بإيقاعين، الأول يضم دول اليورو التي ستصادق على الوثيقة الجديدة، والثاني يضم دول الاتحاد التي لم تندمج في العملة الموحدة أو التي لم تتوافر لديها بعد شروط الاندماج .
والواضح أن العمل بإيقاعين سيكون لمصلحة الثنائي الفرنسي الألماني والعملة الموحدة، فهنا ستتجمع العناصر الأساسية للاقتصاد الأوروبي وستتجمع أيضاً عناصر الحل للمشكلات المطروحة على الاتحاد، ومن هنا أيضاً، وأيضاً ستنتهي صيغة الاتحاد الأوروبي القديمة بوصفه سوقاً فقط، كما يحلو لبريطانيا أن تسميه . ذلك أن الاتفاقية الجديدة المزمع اعتمادها تنص على تشكيل ما يشبه الحكومة الاقتصادية الأوروبية التي تراقب أداء الاقتصادات وتصوت بالأغلبية الساحقة، وليس بالإجماع، وهو ما يتناقض مع الطرق المعتمدة سابقاً في حل الأزمات الاقتصادية، حيث كان الاجماع هو قاعدة العمل، وكان بوسع أية دولة صغيرة أن توقف تحرك الاتحاد بكامله إذا كان التحرك لا يتناسب مع رغبتها، وستنطوي الاتفاقية الجديدة أيضاً على إنشاء صندوق النقد الأوروبي على غرار صندوق النقد الدولي، وستكون مهمة هذا الصندوق كمهمة نظيره الدولي، أي حل الأزمات ومراقبة السياسات المالية الأوروبية وإعطاء تعليمات محددة بشأنها، بحيث لا تفاجأ أوروبا بأزمة شبيهة بأزمة الأسواق والديون اليونانية والإيطالية والإسبانية والبرتغالية . . . إلخ .
معلوم أن البنك الأوروبي كان الطرف الوحيد المكلف حل مشكلة الديون، ولم تكن لدى الحكومات سلطة فعالة في هذا المجال، ولعل الأهم في الاتفاقية الجديدة هو أنها ستنطوي على تشكيل ما يشبه الحكومة الاقتصادية الأوروبية التي تنسق السياسات الاقتصادية للدول المختلفة وتحقق الانسجام بينها على حساب السيادات الخاصة بكل دولة، وإذ نتحدث عن حكومة اقتصادية واحدة فإننا نتوقع سياسة خارجية أوروبية واحدة والمزيد من القوة والحضور للاتحاد الأوروبي الذي كان حتى أيام قليلة أشبه بسوق الأحد، حيث يجتمع الجميع يوماً واحداً ولمصلحة محددة ثم يتفرقون في اليوم التالي .
في مبادرة ذات معنى رمزي مهم أطلقت لندن اسم “واترلو” على محطة القطارات التي تستقبل الوافدين من فرنسا عبر نفق تحت بحر “المانش”، وهو اسم لا يحبه الفرنسيون لأنه يذكرهم بهزيمة بونابرت الساحقة في مطالع القرن التاسع عشر أمام تحالف أوروبي بقيادة بريطانيا، ولعل البريطانيين يشعرون اليوم بما يشبه الضغط البونابرتي عبر الاتفاقية الجديدة، حيث سيكون عليهم الاختيار بين التهميش داخل الاتحاد أو على مقربة منه، الأمر الذي لا يتناسب أبداً مع مكانتهم الدائمة كأمة تحتفظ بهامش واسع للمناورة وخيارات متعددة . تبقى الإشارة إلى أن الاتفاقية الجدية ستغير ليس فقط وجه العلاقة مع بريطانيا وإنما أيضاً وجه أوروبا .
تعليقات