المستقبل للاستثمارات العربية ولابد من توجيه الرساميل لها برأي زياد حافظ
الاقتصاد الآنديسمبر 4, 2011, 10:14 ص 580 مشاهدات 0
زياد حافظ
مع كل الحراك الشعبي الذي تشهده ساحات عربية متعدّدة، يغيب عن اهتمام المراقبين العرب مسألة في غاية الأهمية والخطورة، ألا وهي قضية الاستثمارات العربية، سواء كانت في الوطن العربي أو في الأسواق الغربية. ففي الأسواق الخارجية معظم الاستثمارات العربية هي توظيفات فقط لا غير، في أوراق مالية من أسهم وسندات قصيرة أو طويلة الأجل للشركات المدرجة أسهمها في الأسواق، أو في سندات الخزينة للدول الكبيرة وخاصة الأميركية وفي القطاع العقاري في العواصم والمدن الكبرى في الغرب. والتمييز بين الاستثمار والتوظيف مهم، لأن الانطباع السائد عند أصحاب رؤوس الأموال العربية أن التوظيف مرادف للاستثمار وهذا غير صحيح. فالاستثمار يساهم في زيادة تكوين الرأس المال عبر زيادة في الطاقة الإنتاجية للمشروع الاقتصادي الذي يتمّ فيه التوظيف، بينما التوظيف بحد ذاته لا يضيف أي شيء، بل يشكّل فقط رهاناً على احتمال ارتفاع قيمة التوظيف، بسبب، إما المضاربة، أو بسبب النتائج الاقتصادية والمالية للمشروع. ويشكّل هذا الارتفاع في قيمة التوظيف الحافز الأساسي للقيام بعملية التوظيف دون الأخذ بعين الاعتبار النشاط الاقتصادي للمشروع.
هناك مشكلة قائمة في معظم الدول العربية عامة، وخاصة في الدول النفطية العربية، ألا وهي كيفية توظيف الفوائض المالية لدى الحكومات وفوائض الرساميل لدى القطاع الخاص. فالطاقة الاستيعابية للفوائض والرساميل في الاقتصادات العربية محدودة، وذلك بسبب طبيعة الاقتصادات العربية التي يغلب عليها الطابع الريعي، بدلا من الطابع الإنتاجي. وتغلّب الطابع الريعي على الطابع الإنتاجي يعود لأسباب تاريخية وسياسية واجتماعية وثقافية. يكفي أن نقول إن الطابع الريعي للاقتصاد العربي يحدّ من توسيع الرقعة الاستثمارية التي طالما رافقها المجهود والمخاطرة فتجعل المستثمر العربي يفتّش عن وسائل أخرى لتنمية الثروة عبر وسائل تتطلّب أقلّ جهد ومخاطرة. وهذا سلوك طبيعي وعقلاني، فلماذا المجهود والمخاطرة ما دامت هناك إمكانية من الحصول على مردود بدون مجهود ومخاطرة؟ إن القبول بالمجهود والمخاطرة يتطلّب حسّا وطنيا وقوميا على كل الأصعدة، وذلك بدوره يتطلّب وعياً لم يكتمل عقده عند النخب العربية الحاكمة سواء كانت في الحكم أو خارجه. فما زالت النظرة للأسواق الغربية تحظى باهتمام مبالغ به لا يستحقّه، خاصة أن الحماية للاستثمارات العربية في تلك الأسواق عملية نسبية في أحسن الأحوال. القانون الذي يحمي المستثمر في تلك الأسواق ليس محمياً من المزاج السياسي للحكومات. فهناك العذر السياسي والخطر على الأمن القومي لدول الغرب الذي يبرّر إجراءات أقرب للقرصنة من أن تكون مبنية على أسس قانونية وأخلاقية واضحة، كتجميد أرصدة الدول التي تختلف مع دول الغرب. فعلى سبيل المثال ما زالت الأموال الإيرانية والليبية مجمّدة في دول الغرب، ومصيرها ما زال مجهولا.
مثل آخر هو تدخّل الحكومة البريطانية لفسخ استثمار الدولة الكويتية في شركة بريتيش بتروليوم في الثمانينيات، تحت الضغط السياسي لمجلس العموم. وفي ولاية بوش تدخّل الكونغرس تحت الضغط الصهيوني، لمنع شراء شركة خليجية لمرافق استراتيجية. وأخيرا نتذكّر أخبار وكالات الأنباء الدولية استدعاء وزير المال الأميركي هنري بولسن في صيف 2008 لرؤساء الصناديق السيادية العربية والطلب منهم استثمار الفوائض المالية في الأسواق المالية، والامتناع عن تمويل مشاريع، إلا بعد إخضاعها لموافقة البنك الدولي.
أما على صعيد القطاع الخاص فنذكر ذريعة تمويل الإرهاب التي اتخذتها مجموعات صهيونية في نيويورك لإقامة دعوى ضد البنك العربي (فرع نيويورك) بحجة أن البنك كان وسيلة لتمويل عمليات إرهابية ضد مواطنين يهود في زيارة للأرض المحتلة. اضطر البنك العربي لإغلاق فرعه في نيويورك وإيقاف نشاطاته في القارة الأميركية. كما أن المساهمات الرئيسية لبعض المستثمرين العرب في مؤسسات مالية كبيرة خضعت لمراقبة شديدة وصلت إلى تعذّر جلوس أولئك المستثمرين في مجالس إدارة تلك الشركات بحجة أن المستثمرين لم يكشفوا عن مصادر ثروتهم وتمويل توظيفاتهم واستثماراتهم!
هذه الأمثلة سردناها للدلالة على بعض المخاطر التي تهدّد الاستثمارات العربية في الغرب. ونضيف أن طبيعة التوظيفات التي يقوم بها المستثمرون العرب تأتي بأرباح افتراضية نتيجة المضاربات المالية في الأسواق المالية، وبالتالي تعطي فكرة غير دقيقة عن الثروة الفعلية لأصحاب الرساميل العربية، كما أنها تتعرّض للتبخّر سريعاً دون إمكانية إيقاف النزيف المالي. كان بالإمكان تقبّل تلك المخاطر لولا الفضائح المالية وضعف الرقابة على سلوك القيّمين على تلك المحفظات المالية وعلى إدارة الشركات. والضعف في الرقابة متعمّد، وليس حالة طارئة، يمكن تصحيحه، لأن الإرادة مفقودة، بل ضعف الرقابة يشكّل قاعدة النموذج الاقتصادي المعمول به في الغرب. ففضيحة الرهونات العقارية التي كادت تطيح النظام المالي الأميركي والعالمي لم تجلب ردّة فعل قوية من قبل الحكومات. اكتفت الأخيرة بتمويل المؤسسات المالية المهدّدة دون فرض قيود ضابطة. فهذه القيود غير مرغوب بها في نظام اقتصادي مالي مبني على قاعدة الحرّية المطلقة للأفراد والمؤسسات وإن كانت النتيجة على حساب المجتمع أو الوطن أو حتى النظام الاقتصادي والمالي العالمي.
المبرّر الأهم للاستثمار العربي خارج الوطن العربي هو ضيق الطاقة الاستيعابية. ويمكن تبرير التوظيفات العربية في الخارج إذا كانت هناك منفعة واضحة إضافة لحافز الربح. ونقصد بذلك إمكانية الاستفادة من التقدّم التكنولوجي التي تقدّمها المشاريع في الخارج وتحويلها إلى خزّان معرفي تستفيد منه المجتمعات العربية. لكن على ما يبدو لم يحصل ذلك حتى في تدريب الكوادر العربية في تلك المؤسسات التي يوظّف العرب فيها رساميلهم.
المهم الآن هو التفكير الجاد في توسيع الرقعة الاستيعابية للرساميل العربية داخل كل قطر عربي وبين الأقطار العربية. ولا يمكن توسيع تلك الرقعة فقط داخل الحدود القطرية لأن التوجه الذي نشهده في العالم هو قيام التكتّلات الاقتصادية الكبيرة في التبادل الاقتصادي والتكنولوجي بينها. الدول العربية مرشّحة لتصبح تكتّلا اقتصاديا كبيرا إذا ما توفرت الإرادة. فمق
وّمات التكتّل الأكبر سواء عبر التكامل أو عبر المشاريع المشتركة موجودة، وذلك منذ وقت طويل، غير أن الإرادة كانت وما زالت حتى الآن مفقودة. فكما أشرنا أعلاه فإن الاتّكال على الطابع الريعي للاقتصاد العربي حال دون قيام المؤسسات والعمل بها لتوسيع الرقعة الاستيعابية. فعلى سبيل المثال هناك مشاريع «التشبيك» التي يجب أن تقام لإيجاد البنية التحتية التي تربط الأقطار العربية بعضها ببعض. فهناك مشاريع تشبيك الطاقة الكهربائية والغازية والنفطية، كما أن هناك مشروع سكّة الحديد التي تربط الأقطار العربية وتساهم في نقل البشر والبضائع. نشير هنا الى أن شبكة سكك الحديد في الولايات المتحدة ساهمت إلى حد كبير في ربط شرق القارة بغربها، وخاصة في توحيد الولايات بعضها ببعض. نقل البشر والبضائع العربية عبر شبكة سكّة الحديد سيفتح آفاقاً واسعة وأسواقاً وفرص عمل كبيرة.
كما أن قطاع الخدمات الصحية قطاع يواكب النمو السكّاني ويولّد فرص الاستثمار في مصحّات مختصة ومختبرات أبحاث وتحليل ومصانع أدوية وما يمكن أن تفرزه الأبحاث المستقبلية في ذلك القطاع. ولا يمكن أن نسقط من حساباتنا ضرورة التركيز على القطاعات الإنتاجية التقليدية كالصناعة، وخاصة الزراعة التي تساهم في تأمين الأمن الغذائي للمجتمعات العربية، وتجنّبها الاتّكال على الاستيراد من الخارج والخضوع بالتالي إلى الابتزاز. في هذا السياق تشير التقارير والأبحاث المختصّة الى أن العالم قد يواجه في العقدين القادمين أزمة حادة في نقص المواد الغذائية. بالمقابل نجد أن عددا من الدول العربية (كالسودان والعراق وسوريا) ولبنان يشكّل فرصا للاستثمار الزراعي وخاصة في السلع ذات القيمة المضافة المرتفعة التي تستوعب اليد العاملة المحلّية والتقنيات الماهرة وتساهم في تثبيتها في الأرض وتخفّف من الهجرة الريفية إلى المدن، وما يرافقها من ضغوط على البيئة المدينية. في هذا السياق نشير إلى الآفاق المفتوحة في القطاع البيئوي لفرص الاستثمار العربية التي تساهم في توسيع الطاقة الاستيعابية للرساميل العربية.
ويجب أن تتلازم عملية التشبيك والاستثمار في القطاعات الإنتاجية صاحبة القيمة المضافة المرتفعة مع إعادة النظر في البنية التعليمية حيث التركيز على العلوم كالرياضيات والفيزياء والكيمياء وعلوم الطبيعة، على سبيل المثال، يجب أن يكون جوهر الثورة التربوية التي ندعو إليها. فالعلوم أساس إنتاج المعرفة وهنا نرى فرصا كبيرة للاستثمار سواء أوجدها القطاع العام أو القطاع الخاص أو كلاهما وذلك لإنتاج أجيال تأتي بقيمة مضافة للمجتمعات العربية ولإنتاج الثروة. هنا نود أن نؤكد أن في العصر الذهبي للحضارة العربية الإسلامية لم نشهد معالم إنتاج الثروة كما نراها الآن في الدول المتقدمة، ولم تكن محور الاهتمام، بل كانت السمة الأساسية لتلك المجتمعات آنذاك إنتاج المعرفة والتي نقلناها في ما بعد للغرب. وإنتاج المعرفة هو المصدر الأساسي لإنتاج الثروة في القرن الحادي والعشرين. فإعادة هيكلة البنى التحتية للمؤسسات التعليمية تشكل في مرحلة أولى فرصا للاستثمار كما أن تطويرها في مرحلة ثانية تفتح آفاقا أخرى للاستثمار. وتخريج أجيال من العلماء يخلق فرصا استثمارية في قطاعات جديدة وفقا لقانون «لكل عرض طلب». فالاقتصاد الحديث يبدأ بإنتاج سلع وخدمات غير موجودة في البداية ثمّ يتمّ ترويجها فينشأ الطلب عليها.
ليس هناك من عائق غير فقدان الإرادة والرؤية والمثابرة يحول دون تحوّل المجتمعات العربية لإنتاج المعرفة ومن بعدها الثروة. هل تسمع الحكومات نداء متطلّبات المستقبل؟ الحراك الشعبي الذي تشهده بعض الدول هو الإنذار الأول وقد يكون الأخير.
تعليقات