حبس المبيع على ثمنه بين المجيزين والمانعين في االفقه الاسلامي يشرحه د.توفيق البشير

الاقتصاد الآن

3451 مشاهدات 0


من أصعب المشكلات التي تواجه شركات التقسيط الإسلامية في هذا العصر، هو كيفية استعادة البائع لحقوقه المترتبة على المشتري في حالة التقسيط، وضمان عدم المماطلة أو التعثر المالي اللذين يؤديان إلى تعقيد مسألة تحصيل الديون. وهذه المشكلة واحدة من المشكلات الرئيسية التي جعلت شركات التقسيط تقترب من عقد الإيجار المنتهي بالتمليك، كبديل لعقد البيع بالتقسيط، بسبب أن الإيجار يجعل المبيع في ملك البائع حتى سداد الثمن، لأنه عقد بيع تعلق بالمنفعة لا بالرقبة، العين المؤجرة، بينما تنتقل ملكية المبيع إلى المشتري مباشرة في حالة البيع بالتقسيط، لأن ذلك من مقتضى عقد البيع.
والأصل في البيع أن يتسلم المشتري المبيع عند توقيع العقد ويتسلم البائع الثمن. فإن كان الثمن حالاً بالمجلس، تم تسليم المبيع أولاً ثم يسلم المشتري الثمن، وإن كان الثمن غائباً عن المجلس، فللبائع حبس المبيع لحين قبض الثمن وهذا متفق عليه عند أئمة المذاهب.
أما لو اتفق البيعان على تأجيل الثمن، فإن البائع لا يجوز له حبس المبيع عن المشتري، عند جمهور الفقهاء، واستثنى الشافعية خوف فوات الثمن، فعنده أجازوا حبس المبيع ولو كان الثمن مؤجلاً.
الفقه الحنفي

يرى الحنفية أنه لا يجوز حبس المبيع على ثمنه إلاَّ إذا كان حال الثمن، ومن ذلك ما جاء في المبسوط؛ «إذا قال: أعتق عبدك عني على ألف درهم، يجعل التمليك مضمراً لتحصيل مقصودهما، فيصير الأجر بالثمن قصاصاً بهذا الطريق ولا يكون للبائع حق حبس المبيع باستيفاء الثمن، فإن لم يوفه العمل لعذر رجع عليه بالدراهم دون المتاع، لأنه لما انفسخ العقد بعدما صار مستوفياً للأجر بالمقاصة وجب رد ما استوفى كما استوفاه حقيقة، أو لما انفسخ العقد ظهر أن الأجر غير واجب وأن المقاصة لا تقع به ولكن أصل الشراء بقي صحيحاً بثمن في ذمته فيطالبه بالثمن».
وجاء في البدائع، للبائع حق حبس المبيع حتى يقبض الثمن إذا كان الثمن حالاً، وليس للمشتري حق أن يمتنع من تسليم الثمن إلى البائع حالاً، حتى يقبض المبيع إذا كان المبيع حاضراً لأن البيع عقد معاوضة، والمساواة في المعاوضات مطلوبة المتعاوضين عادة، وحق المشتري في المبيع قد تعين بالتعيين في العقد، وحق البائع في الثمن لم يتعين بالعقد، لأن الثمن في الذمة فلا يتعين بالتعيين إلا بالقبض فيسلم الثمن أولاً ليتعين فتتحق المساواة.
الفقه المالكي

وذهب المالكية أيضاً إلى أن الحبس لا يجوز إلا في الثمن الحال، كما جاء في شرح مختصر خليل؛ «ضمن بالعقد يعني أن المشتري يضمن المبيع بمجرد العقد الصحيح اللازم إلا ما يستوفيه بعد ذلك، وإلا ما قدمه مما فيه حق توفيه، وكذلك المبيع على العهدة، وكذلك إذا اشترى لبن شاة معينة أو ثمرة غائبة على الصفة فإن ذلك كله لا يدخل في ضمان المشتري بالعقد الصحيح بل بالقبض كما بينه المؤلف قبل وبعد إلى المحبوس للثمن أو للإشهاد كالرهن، هذا مستثنى مما قبله».
الفقه الشافعي

والشافعية يرون جواز حبس المبيع مؤجل الثمن، إن خاف البائع فوت التسليم، وإن كانوا يجيزونه فيما عدا ذلك، كما أورده صاحب أسنى المطالب: «لو شرط البائع بموافقة المشتري (حبس المبيع) بثمن في الذمة (حتى يستوفي الثمن الحال المؤجل) وخاف فوت الثمن بعد التسليم (صح) لأن حبسه حينئذ من مقتضيات العقد بخلاف ما إذا كان مؤجلاً أو حالاً ولم يخف فوته بعد التسليم بالبائع.
وجاء في حاشيتي قليوبي وعميرة؛ « وللبائع حبس مبيعه حتى يقبض ثمنه» الحال بالأصالة (إن خاف فوته بلا خلاف) وكذلك المشتري له حبس الثمن المذكور إن خاف فوت المبيع به، كما ذكره في الروضة، كأصلها أي بلا خلاف ( وإنما الأقوال) السابقة (إذا لم يخف فوته) أي البائع فوت الثمن وكذلك المشتري فوت المبيع (وتنازعا في مجرد الابتداء) بالتسليم. أما الثمن المؤجل فليس للبائع حبس المبيع به لرضاه بالتأخير ولو حل قبل التسليم فلا حبس له أيضاً كذا في الروضة كأصلها وفي الكفاية في كتاب الصداق أن القاضي أبا الطيب نقل عن نص الشافعي، يرحمه الله تعالى، في المنثور أن له الحبس».
الفقه الحنبلي

أما الحنابلة فهم يمنعون أن يحبس البائع المبيع ولو كان الثمن حالاً، لأن التسليم من مقتضيات العقد فوجب التسليم ولكنهم أعطوا البائع حق الفسخ في حالة تعذر الثمن، كما جاء في شرح المنتهى الإرادات؛ « وإن تشاحنا في أيهما يسلم قبل الآخر فقال البائع لا أسلم المييع حتى أسلم الثمن وقال المشتري لا أسلم الثمن حتى أتسلم المبيع (والثمن عين) أي معين في العقد نصب عدل أي نصبه الحاكم ليقطع النزاع (يقبض منهما) الثمن والمثمن (ويسلم المبيع) لمشتر ثم يسلم (الثمن) لبائع، لأن قبض المبيع من متمات البيع في بعض الصور واستحقاق الثمن مرتب على تمام البيع ولجريان العادة بذلك وإن كان الثمن ديناً ثم أجبر بائع على تسليم مبيع لتعلق حق مشتر بعينه ثم أجبر مشتر على تسليم الثمن حالاً بالمجلس لوجوب دفعه عليه فوراً لإمكانه وعلم منه أنه ليس للبائع حبس المبيع على ثمنه وإن كان الثمن حالاً دون مسافة قصر حجر على مشتر في ماله كله حتى المبيع يسلمه أي الثمن خوفاً من تصرفه فيه، فيضر ببائع. وإن غيبه أي غيب مشتر ماله ببلد مسافة قصر أو كان ماله به أي البلد البعيد ابتداء أو ظهر عسره أي المشتري فللبائع الفسخ لتعذر قبض الثمن عليه».
الخلاصة والترجيح

وبالنظر الثاقب في هذه المسألة، يتضح أن البائع يميل لحبس المبيع في الغالب عند البيع المؤجل لا الحال، لأن الحال يقتضي التسليم الفوري وإن تأخر أياماً وهي فترة يحتاج إليها أصلاً لتسليم المبيع فلا خوف ولكن البائع يميل غالباً لحبس المبيع عند الثمن المؤجل خوفاً من امتناع المشتري أو عدم قدرته على تسليم الثمن، وهو ما لم يجيزه الفقهاء في جميع المذاهب ما عدا الشافعية الذين توسعوا ففتحوا باباً للحبس مبنياً على خوف البائع من تسليم المشتري للثمن، وهو ما أراه موافقاً لقرار هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية رقم 198 الذي قرروا فيه عدم جواز الإيجار المنتهي بالتمليك وأجازوا فيه البيع البتقسيط مع رهن المبيع على ثمنه حفاظاً على حقوق البائع. وأتمنى أن يتوسع الفقهاء في بحث هذه المسألة في ظل المتغيرات الحالية والأوضاع الراهنة ويجتهدوا في إيجاد مخرج شرعي لها، ولا سيما في ظل الخلاف القائم بين الفقهاء حالياً حول الإيجار المنتهي بالتمليك.

صحيف عالم الاقتصاد السعودية

تعليقات

اكتب تعليقك