د. محمد العسومي يقول ان مطالب متظاهرين وول ستريت حول العالم تركزت على ضرورة وقف جشع رأس المال والفساد المالي وتوفير الوظائف والخدمات الاجتماعية

الاقتصاد الآن

654 مشاهدات 0


تسود الاقتصاد العالمي تغيرات كبيرة وجذرية ستكون لها انعكاسات مهمة على بنية المجتمعات في العقديين القادمين، فطبيعة رأس المال في القرن الحادي والعشرين لا تشبه طبيعته في بداية النهضة الصناعية ولا منتصف القرن التاسع عشر الذي تميز بابتكارات واختراعات غيرت وجه الحياة على الارض، كما انها تختلف عن راس مال القرن العشرين. الطور الحالي لرأس المال بدأت جذوره في التكون قبل ثلاثين عاما تقريبا وازدادات وتائر نموه في الاعوام الاخيرة، بحيث تشكل نظام اقتصادي له سمات محددة وتسيره عوامل تختلف عن القوانين التي حددها مفكروا الاقتصاد الراسمالي الكلاسيكي «آدم سميث» و«ديفيد ريكاردو»، بل ان الطور الحالي ركن جانبا الفلسفة الاقتصادية لفترة ما بعد الكساد العظيم ومنظرها الرئيسي «جون مينارد كينز» والتي توجد التوازن المطلوب للنمو بين الانشطة الاقتصادية للقطاعين العام والخاص. واذا ما اخذنا على سبيل المثال احد المفاهيم المتعارف عليها في الاقتصاد والخاصة بانخفاض الاسعار خلال فترات الركود الاقتصادي، فإننا سنجد ان هذه العلاقة لم تعد قائمة في الطور الجديد من النظام الاقتصادي الحالي، كما هو مفترض، ففي الوقت الذي يمر الاقتصاد العالمي بازمة حقيقية ويتباطأ النمو الاقتصادي بسبب الكساد وما ينجم عنه من انخفاض في الطلب على السلع والخدمات، فان اسعار هذه السلع والخدمات ترتفع في ظاهرة فريدة تلغي من الناحية العملية مفاهيم اقتصادية اعتمدة على مدى ثلاثمائة عام تقريبا. لقد ادت الازمات المتعاقبة الى انخفاض الطلب في الاسواق العالمية كما هو متوقع ومنطقي نتيجة لتراجع القدرة الشرائية للمستهلكين وارتفاع معدلات التضخم والبطالة، الا ان الطور الحالي من النظام الرأسمالي كان له رأي آخر، فرأس المال المالي المغامر والذي يقود قاطرة الاقتصاد العالمي في الوقت الحاضر يقوم بعمليات مضاربة تؤدي الى ارتفاع الاسعار بصورة مصطنعة ولا تعبر عن قوانين الاقتصاد الخاصة بالعرض والطلب. وفي هذا الصدد يمكن الاشارة الى اسعار بعض السلع المهمة، فمعدلات العرض والطلب على النفط تتميز بوجود توازن يمكن من خلاله تسعير النفط بصورة متوازنة عند مستوى يتراوح ما بين 70 – 80 دولارا للبرميل كما ترغب البلدان الاعضاء في منظمة «الاوبك» الا ان الاسعار ظلت مرتفعة بنسبة 40% فوق هذا المعدل برغبة من المضاربين والمجمع المالي العالمي والذي تفوق قدراته المالية ما يتوفر للبلدان المنتجة للنفط من امكانيات مالية وتسويقية، اذ ينطبق ذلك ايضا على فقاعة الذهب الذي يتذبذب بصورة مستمرة وتنتقل من خلاله الثروات من خانة الى اخرى.واذا ما تساءلنا عن وجود تفاوت اونقص في امدادات المواد الغذائية في الاسواق العالمية، فان الجواب سيكون بالنفي، فالانتاج العالمي من هذه المواد، بما فيها الرئيسية منها، كالقمح والرز والسكر والزيوت تفي باحتياجات الاسواق، وبالاخص في فترة الركود الحالية، الا ان طموحات راس المال المالي ومضارباته تؤدي الى تجاوز القوانين والانظمة وارتفاع الاسعار بصورة مفتعلة وتحقيق ارباحا خيالية.من الواضح ان الطور الحالي للراسمالية لا يعترف بالانظمة السابقة لتسير الاقتصاد، بل انه يحاول فرض اجندته الخاصة المتميزة بالفوضى والتلاعب باسعار السلع وخلق مشتقات مالية يمكن من خلالها الاستحواذ على مدخرات الافراد وامتصاص ثروات البلدان الصاعدة واستثماراتها واصولها الخارجية. لقد اتاحت مجموعة من التغيرات الجذرية في النظام الاقتصادي العالمي لراس المال المالي الهيمنة في العلاقات الدولية واخضاع السياسات الاقتصادية لخدمة توجهاته الرامية الى تركيز الثروة في ايدي المجمع المالي، ففي الولايات المتحدة يملك 1% من السكان فقط اكثر من 40% من الثروة، وباعتبار الاقتصاد الامريكي اكبر اقتصاد في العالم، فانه من الصعب تصور مدى تركز الثروة هناك والتي ولدت المزيد من العاطلين عن العمل والمعتاشين على المساعدات الاجتماعية. وضمن هذه التغيرات العالمية تأتي مسالة انتهاء الحرب الباردة وانفراد الولايات المتحدة بقيادة العالم وتراجع تاثيرات رأس المال الصناعي والناجم عن التغيرات الهيكلية المرافقة للنقلة النوعية في تقنية المعلوماتوالاتصالات واقتصاد المعرفة القائم على التقنيات الحديثة. وبدلا من ان يؤدي ذلك الى تقليص الفوارق واتساع الفئة الوسطى في المجتمع وتسخير هذه التقنيات لرفع مستويات المعيشة، فان راس المال المالي سخر هذه التغيرات لتعميق الفوارق وتركيز الثروات وجر فئات واسعة في المجتمعات الغربية نحو الاستثمار في الفقاعات، كفقاعة العقار والاسهم من خلال تقديم التسهيلات التمويلية التي تفوق قدراتهم المالية واستحداث مشتقات مالية بمعادلات رياضية معقدة يصعب التعامل معها بوضوح وشفافية. لذلك، فإن الطور الجديد لا يكتفي باستغلال موارد البلدان الاخرى في الاطراف كما هو الحال مع رأس المال، وانما يستغل في نفس الوقت وبنفس المعدل الفئات العاملة ومدخرتها في بلدان المركز المتطورة اقتصاديا، وهو ما يمنحه صفة الشمولية، حيث اتاحت له التقنيات الحديثة وسرعة انجازالمعاملات من خلال شبكة الانترنت المتقدمة جدا السائدة في المعاملات المالية في العالم ربط الاسواق العالمية بشبكة من الاتصالات التي فرض عليها سيطرته الكاملة، متجاوزا في ذلك الحدود القائمة وعابرا القارات بفضل عولمة الاقتصاد العالمي الذي تحول من الناحية العملية الى سوق واحدة كبيرةوبقيادة مالية تتحرك من خلال اجهزة كمبيوتر متقدمة والتي يمكن من خلالها التحكم في الاسعار وادراة الثروات وانهاء المعاملات المالية والتجارية في غضون ثوان معدودة. على الجانب الآخر فرض هذا التطور النوعي لمرحلة للمجتمع اصفاف آخر للفئات الاجتماعية المتضررة، ففي السابق كانت القوى العاملة هي التي تشكل المقابل المضاد لرأس المال، اما في ظل الطور الجديد، فان فئات اجتماعية واسعة انضوت لمواجهة مبالغات راس المال المالي واتجهت مباشرة الى عقر دار القوة المالية المهيمنة في «وول ستريت» وحي المال في لندن وغيرها في اكثر من الف مدينة في 92 بلدا. والمفارقة الاخرى، هي انه لا يجمع هذه الفئات الاجتماعية فكرا او ايدلوجية معينة، كما هو الحال في السابق، وانما اجتمعت كافة هذه الفئات المتفاوتة في افكارها وتوجهاتها السياسية على توجيه رسالة قوية الى تحالف المجمع المالي- السياسي مفادها ضرورة الانتباه الى الهوة السحيقة التي يقودون المجتمع اليها من خلال افقار هذه الفئات وضم ملايين من العاملين لصفوف البطالة وتسخير التقنيات الحديثة لزيادة الارباح، بدلا من رفع مستويات المعيشة. والغريب في الامر، وهو ما يحدث بصورة نادرة، ان مطالب الالف مدينة في 92 بلدا، هي نفس المطالب، وكأن العالم صحى فجاءة ليجد بان رأس المال المالي وممثليهم من قادة المصارف ومؤسسات الاستثمار الدولية والمضاربون في البلدان الغربية قد توحدوا لافقارهم ومصادرة مدخراتهم، مما وحد مطالبهم من «وول ستريت» في نيويورك - حيث انضم الى المحتجين ابن ثالث اغنياء العالم الملياردير «وارن بافيت»- الى لندن وباريس وفرانكفورت في الغرب وحتى نيوزيلندا في اقصى الشرق مرورا بالعواصم والمدن الاوروبية والافريقية والآسيوية، حيث تركزت مطالب المحتجين على ضرورة وقف جشع رأس المال والفساد المالي وتوفير الوظائف والخدمات الاجتماعية. ولم تقتصر هيمنة راس المال على اسواق البلدان المتقدمة، وانما امتدت اذرعها لاسواق المال في البلدان الصاعدة والنامية، مما حدى بالمحتجين في فرانكفورت بالمانيا ومن امام البنك المركزي الاوروبي الى المطالبة بانهاء تحكم اسواق المال في الاقتصاد العالمي. هذه وغيرها من التطورات المستجدة تشكل بعض من سمات الطور الجديد لمجتمع القرن الواحد والعشرين والذي تمكن من خلاله راس المال المالي غير المنتج ليس من ازاحة المجمع الصناعي والتجاري فحسب، وانما خلق اوضاع اقتصادية واجتماعية هشة وقابلة للانفجار في اي وقت. من هنا تكمن خطورة الطور الحالي من النمو والذي يمكن ان يؤدي الى عواقب تقود الى الحروب والغلائل والتوترات الاجتماعية، مما يتطلب من المجمع المالي اعادة النظر في توجهاته، اذ ربما يكون هو الاقوى والاكثر نفوذا في اوساط مجمع الاعمال العالمي، الا انه ليس المكون الاوحد في المجتمع. اما في حالة الاستمرار في هذه التوجهات، فلربما يشهد العالم في الفترة القادمة بروز مجتمعات وعلاقات انتاج جديدة، هي اقرب الى النموذج الاسكندينافي المستقر والاكثر مداراة لمتطلبات المجتمع بين البلدان الغربية المتطورة.

الآن - صحيفة الايام البحرينية

تعليقات

اكتب تعليقك