فهيد البصيري يكتب عن فوبيا الخرفان في جولة إلى صفاة الأغنام

زاوية الكتاب

كتب 1020 مشاهدات 0



 

 

 فهيد البصيري / خرفان آخر زمن!

 
 
كل وعام وأنت بخير، هي أصدق عبارة تقولها الأغنام لبعضها إذا مر عيد الأضحى عليها بسلام، فعيد الأضحى وبال على كل بهيمة حلال لأنه عيد اللحمة عند المسلمين.
وفي عيد الأضحى الماضي كلفتني الأسرة بشراء الأضحية، لفراستي ولخبرتي الطويلة في التعامل مع الأغنام، فوكلت أمري إلى الله، وذهبت إلى (صفاة الأغنام) أي سوق الغنم، رغم وجود عداوات قديمة بيني وبين (الخرفان)، فهي ما ان تراني حتى يصيبها الذعر أو (عقر بقر) كما تقولون، فهي تعرفني (عز المعرفة) فكم قتلت من شبابها، وكم أثكلت ضانا، وكم يتمت (بهمة)، ولكنه قدرها أن تصبح للكرام طعاماً، وقلت في ذلك مجارياً قصيدة «أبو الطيب المتنبي»:
الكبشُ والضانُ والأنعامُ تعرفني
و(العنزُ) والتيسُ والأبقارُ والبهمُ
إن جاءَ ضيفٌ ولو بالحلمِ يقصدني
قتلتُ كل خروفٍ دونما ندم ُ
حتى يُقالُ بأن الله أرسلني
للضيفِ زادٌ وللأغنامِ مُنتقِمُ
المهم أنني دخلت سوق الأغنام مخفياً وجهي (بغترتي) ومستغلاً كثافة العجاج المتطاير من حولي، وللأسف، بمجرد أن نطقت عرفتني الخرفان وجميع المواشي المتواجدة تلك الساعة، فأصابها نوع من الهياج، وأخذت تصيح وتولول، ولكن بلغتها العامية، الخوار، والثغاء، ولما رأيت أن حيلتي لم تسعفني، قذفت (بالغترة) والعقال
وانأ أهزج بقول الشاعر:
أنا ابن (كلآ) و طلاع الثنايا
متى أضع (اللثامة) تعرفوني
سمعت همهمة من خلفي تقول: اللهم نجنا يا منجي يونس من بطن الحوت،
وبعدها تردد أصداء كلمة أمين، وأحسست بحرج شديد عندما سمعت همساً لم افهم منه سوى: نعم... إنه فهيد السفاح، والحقيقة أن هذه الصفة جاءت من إحدى المرات عندما أجهزت على الخرفان الموجودة في (الصفاة) جملة واحدة، وذلك لزوم نذور نذرتها على نفسي إذا قامت دولة فلسطين وقد قامت فعلاً ولكنها لم تقعد!
ومع الأيام وصلت شهرتي إلى (صفاة استراليا)، بعد أن تحولت إلى ذبح الخروف الإسترالي، بدلاً من العربي، الذي ثقل سعره وخف لحمه، بل وصلت شهرتي صفاة البرازيل، وأغلب (صفوات، جمع صفاة) أميركا اللاتينية التي لم أزرها أبداً، ولكنها ضريبة العولمة، وعصر التكنولوجيا، فقد التقط أحد الخرفان شريط فيديو لي دون أن أدري، وانا أجهز على أحد (الطليان، خروف وليس إيطالي) وشاع خبر الشريط وانتشر حتى وصل إلى الشبكة العنكبوتية، وإلى موقع اليوتيوب بالذات، فلم يعد هناك سر بعد اليوم.
وما أكثر المرات التي وجدت فيها صوراً لي مقتطعة من الجرائد في بطون هذه البهائم، ما يدل على أنها تتبع أخباري، وتخشى تحركاتي.
ومالنا ومال (فوبيا الخرفان) المهم أنني في هذه المرة وقعت يداي على خروف دعت عليه أمه، وقد أعجبني قوامه وحسن صوفه وهندامه، وبعد مساومة عنيفة، وطلوع ونزول في السعر وفي ضغط دمي، رضخت للأمر الواقع وأعطيت صاحبه المقسوم، ورحت أجرجر الخروف، الذي تسمر في مكانه من الخوف.
حاولت إقناع الخروف بالتي هي أحسن، فلم يقتنع، ورمقني بنظرات كلها معان وعبر، فقلت له (هات من الأخر) فأنا وقتي ملكي وليس ملك الأغنام.
قال الخروف بشاعرية لم تخطر لي على بال:
آما تدري بان اليوم عيد
وكل الناس تفرحُ في البلادِ
ويلبس من تحب من الجديد؟
وتلبس أسرتي ثوب الحدادِ!
فذرني للنوائب والليالي
فقد أُنجيكَ في يوم الكسادِ
أدهشني الخروف بشعره، وكدت أطير خوفاً وفرقاً من بلاغته التي اكتشفتها متأخراً، وكان لا بد من أن أجاريه شعراً لعله يقتنع فقلت:
لعمري لم أكن يوما ظلوماً
ولكني وجدتك في المزادِ
وأنتم معشر الأنعام زرعٌ
وقد جئناكموا يوم الحصادِ
ولولا كفلكَ المملوءُ شحماً
وطيبُ مذاقكم ما كنت زادي
ابتسم الخروف ابتسامة صفراء، فعرفت من أسنانه أنه يدخن، وأنه أكبر سناً مما توقعت، رغم ملامحه الطفولية، وبعد صمت مهيب أدرك الخروف أنه ميت لا محالة فقال:
فما بال (المعازِ) ألم تراها؟
وتلك الإبل؟ أم تبغي عنادي
أمقدام على (سخل وشاة)
وتهرب من ملاقاة الأعادي
فسبحان الذي أعطاك ملكا
لتأكل لحمنا بعد الجرادِ
وما كاد ينتهي من شعره حتى جن جنوني من وقاحته وطولة لسانه، فلطمته على وجهه لطمة كادت أن تودي بعينه الحولاء.
وقلت حاشداً شاعريتي:
خسئتم يا ابن قاصرة الأيادي
فلا كلباً ولست من الجيادِ
تعيرني بشيء ليس مني
وليتك حاضر يوم التنادي
لتعلم أننا لا... لا نبالي
أشاة خصمنا أم قوم عادِ
فخذها طعنة نجلاء مني
وبسم الله نقتل كل عادِ
فلا والله لا أبقيت حياً
من الأغنام بعدي للعبادِ
باغت الخروف بطعنة نجلاء، فلست ممن يقول ولا يفعل، فخر الخروف مضرجاً بدمائه، ورحت اضرب بسكيني، ذات يمين وذات شمال، مفرقاً شمل من يريد الحيلولة بيني وبين ذلك الخروف الباغي، حتى أجهزت عليه، وهممت بالانقضاض على بقية الأغنام في (الصفاة) لولا بعض العقلاء الذين تداركوا الموقف، ومنعوني بحزم بين، وقول لين، وما هي إلا لحظات حتى أحسست بالندم على الجريمة التي شهدتها كل (أغنام الصفاة) لتؤكد السمعة السيئة التي التصقت بي وبأنني سفاح! لم استطع الفرار، وأطعت نصيحة احد الخرفان، وسلمت نفسي وسلاح الجريمة إلى أقرب مسلخ، حيث وصلت بعد ذلك الأدلة الجنائية ونقلت الخروف إلى الطبيب الشرعي، ولكنه لم يعد، ولم أجد له اثراً بعد ذلك اليوم! مما سهل لي الخروج من القضية لعدم كفاية الأدلة، فلا جريمة قتل دون جثة!
لم أعد إلى (الصفاة) بعد ذلك اليوم ووكلت من يقوم نيابة عني بذبح أضحيتي وأن ينقل المعركة ويضحي في أحد البلدان البعيدة (وكفى الله المؤمنين شر القتال). وكل عام وأنتم والخرفان بخير.


فهيد البصيري

الراى

تعليقات

اكتب تعليقك