الحكومة ملزمة بإخراج المواطنين من كهوف التاريخ المظلمة.. صالح الشايجي في قيلولته
زاوية الكتابكتب أكتوبر 30, 2010, 1:01 ص 624 مشاهدات 0
قيلولة: الحكومة ملزمة بإخراج المواطنين من كهوف التاريخ المظلمة
الجمعة 29 أكتوبر 2010 - الأنباء
كارهو الحياة والزاهدون فيها يرفضون الشعر والغناء والرسم
المســــاواة رأس العــدل وواجب الحكـومات أن تعدل بيــن جميــع مواطنيهــا
الفطـرة الإنسانيـة جافـة خشنة منطقها «لا حيــاة لـي إلا بإفنـــاء الآخـر»
لولا الفكــر وروح التأمـــل عنـــد الإنســان لمـــا اكتشــف أســرار الحيـاة
نحن والآخرون
يقتضي العدل منا أن نعطي الآخرين فرصتهم بأن يحيوا الحياة كما يحبون أن يعيشوها بل ونهيئ لهم السبل لمبلغ مقصدهم، وذلك أدنى درجات العدل وليس من منة في ذلك، والذين هم معاكرون للحياة معاركون لها وكارهوها والزاهدون فيها والذين يرفضون الإبداع الإنساني من علوم ساهمت في تطوير الحياة الإنسانية وساعدت على رفاهية الإنسان، أو أدب يتمثل بالشعر والقصة والرواية والكتابة والخطابة، وفنون تتمثل بالغناء والموسيقى والرقص والرسم والنحت. وهي كلها هبات إلهية وهبها الله لبعض خلقه من البشر لأجل تمتين الحياة وتجميلها وترقيقها ومداواة علل النفس البشرية، هؤلاء الناس المصابون بمثل هذه العقدة النافرة، علينا كأناس أصحاء مقبلين على الحياة ومحبين لها أن نتعامل معهم بأريحية وحب وإيثار وغيرية، وأن نعمل على مساعدتهم وإعانتهم على محن الحياة وإحنها، لا أن نقف منهم موقفا مضادا أو رافضا لهم. علينا أن نساعدهم للخروج من تلك الحالة المرضية ونعمل على جعلهم أناسا أصحاء خالين من تلك الأمراض الفتاكة، لأن الحالة المرضية التي هم فرائسها، تستدعي منا نحن الأصحاء الشفقة والرحمة ودفق شآبيب من الحنان والحنو والرفق بهم، لا التجبر والتكبر والرفض والاستهزاء على ولمن وبمن ينتمي لذلك الفصيل الإنساني المكلوم، فيكفيهم ما هم فيه من اسوداد في العيش وظلام لا يرون معه زرقة البحر ولا خضرة الحقل ولا سمو السماء ولا خفقات الريش في أجنحة العصافير ولا هزهزة المخبآت فوق صدور العذارى ولا مائسات القدود ولا مهفهفات الشعور. صُمّ الآذان لا يسمعون شدو الشادي إن شدا ولا رنة العود إن صدح في فضاء يابس فيطريه وفي قلب جاف غليظ فيلينه.
غذاء الشعوب
عمدت حكومات العصر الحديث إلى تبني الثقافة والفنون وإشاعتهما بين مواطنيها وأغدقت عليهما الكثير من الأموال، لتداوي عللا كامنة في نفوس البعض من مواطنيها، ولإدراكها لدور الفنون والآداب في معالجة النفوس وتطوير الحس الإنساني وبلسمة جروح الذات الكارهة للحياة. إن المساواة رأس العدل ولا عدل دون مساواة، وواجب الحكومات أن تعدل بين مواطنيها بمختلف مشاربهم وفئاتهم الفكرية وأطيافهم الاجتماعية، فلا تمنح هذا دون ذاك أو هذه دون تلك، لذلك قالوا في الحكم «العدل أساس الملك».
الفرد والجماعة
إن الفطرة الإنسانية جافة وغليظة وخشنة بل ومتوحشة، وهي قريبة الشبه بطبيعة الوحوش الضواري التي لا يحكمها منطق ولا عدل، والتي تحتكم إلى الفردية والأنانية ومنطق القوة وعدم إقامة أدنى اعتبار للآخر، بل إن منطقها الذي تحتكم إليه يقول «لا حياة لي إلا بإفناء الآخر». هكذا قامت الحياة الإنسانية في بدء تكونها وفجر نشأتها، حتى أخدت رويدا رويدا تتخلص من تلك الأثقال الوحشية وتطور أدواتها وتسير في طريق الاستقرار والمشاركة والتعرف إلى روح الجماعة، وما يمكن للجماعة أن تنتجه مما يعود نفعه على المجموع.
الفطرة الكامنة
وهذا الاستقرار أو شبه الاستقرار هو الذي أحيا الفكر وروح التأمل عند الإنسان، وهذا التأمل هو الذي قاد الإنسان إلى محاولة اكتشاف أسرار الحياة التي يعيشها، ويبدأ في تطوير قدراته العقلية والفكرية، فأخذ ينتج الأدوات التي تعينه في حياته وتساعده على مواجهة مشاقها، وصولا إلى التأمل في الكون ككل وأسرار الطبيعة، وهنا تولدت الفلسفة وصار الفلاسفة هم الذين يقعدون القواعد للحياة ويضعون لها القوانين، فبدأت تتشكل المجتمعات والسياسة وأنظمة الحكم والدول والممالك والجيوش والحروب والتوسعات. أين دور الفنون والآداب في كل ذلك ومن ذلك كله؟ حين استقرت حياة الإنسان في مجتمعات وجماعات، وأمّن الإنسان احتياجاته الأساسية من مأكل ومشرب وتنقت نفسه من الفطرة الوحشية، جاءت الآداب والفنون وليدة لذاك الاستقرار وهناء العيش والراحة والدعة، واكتشف الإنسان أنها فطرة كامنة في نفسه وأنها سمة من سماته الإنسانية، تلبي احتياجاته وتكمل مسيرته على الدرب الطويل، وأن لها دورا حياتيا لا يستغني عنه، بل هي ضرورة حياتية.
مرآة الشعوب
إن الإنسان مدين للفنون والآداب فلولاها لبقي على وحشيته وهمجيته. وفي عالمنا الحديث نجد أن أكثر الشعوب رفاهية واستقرارا وإنتاجية هي الشعوب الغنية بفنونها والتي تعلي قدر الفن والفنانين، وأن أكثر الشعوب شقاء وتعاسة وتناحرا وكسلا وقلة في الإنتاجية هي الشعوب الفقيرة في فنونها أو التي لا تعطي للفنون والآداب المكانة التي تستحقها. ويقولون إن الفن هو مرآة الشعوب، وإني لأراهم صادقين فيما قالوا، لأن الفن يعكس واقع الناس، فحيث تزدهر الحياة يزدهر الفن. فالحياة العربية في قديمها أنتجت شعرها الخالد والمسمى بالمعلقات وغيرها من أشعار تحمل الفكر والفلسفة والحكمة وتمد مجتمعاتها بجرعات من القوة، حتى باتت القبائل العربية القديمة تتباهى بشعرائها أكثر من تباهيها بفرسانها ومقاتليها. وهذا الحراك الشعري والفني آنذاك يعكس واقع المجتمع المزدهر والنشط والحيوي والذي كان يستقطب أفرادا من الروم والفرس لمعايشة عرب ذلك الزمان برغم الفارق المعيشي بين البقاء وسط الخضرة وجمال الطبيعة وانتعاش الطقس في بلاد فارس وبلاد الروم وبين الصحراء العربية مع ما هي عليه من جفاف، ولكن غنى الحياة وازدهارها وكون مكة أحد المراكز التجارية المهمة، الأمر الذي نشط الحياة فيها وساهم في ازدهارها، هو ما ساعد على جذب الأقوام الأخرى للعيش وسط البيئة العربية، رغم الجفاف والتصحر.
إعمار الفانية
وفي العودة إلى إخواننا الذين لا يستلذون بالحياة ولا يرون فيها إلا سلما يرتقى إلى الموت وأنها دار فناء لا دار بقاء ونحن أيضا نراها كذلك ولكن الفرق بيننا وبينهم أننا نرى أن علينا واجبا إنسانيا إزاء هذه الدار الفانية وأن علينا رسالة تعميرها لنا ولمن سوف يلحقنا للعيش فيها ثم لأن أعمارنا التي سنفنيها أحياء نريدها أن تكون سنين جميلة ذات عيشة راضية ترضينا ونرضى بها، ولأننا نريد أن نكـون مخلصـين لغرائزنا الطبيعيـة التـي ولدنا بهــا ولا نـريـد أن نتـــكبـر عليهـــا أو نجافيها، كما أن حب الحياة فطرة فينا وخدمتها واجبة علينا ولا نحب أن نقصر عن أداء واجباتنا تجاه الحياة وناسها من أي ملة أو مذهب كانوا ونحن لا نعادي أحدا من البشر بمن فيهم أولئك الذين يشحذون سكاكينهم وخناجرهم بغية حز رؤوسنا أو قطع ألسنتنا أو بتر أصابع أيدينا حتى لا نقوى على فعل يعزز إنسانيتنا ويعلي قدر الحياة ويجملها، لذلك نحن ضد عزل إخواننا المنتمين إلى ذلك الفصيل المريض الذي يحارب الفكر والفن والأدب والثقافة بل والحياة بشكل عام، نحن ضد عزلهم والتكبر عليهم ووصمهم بصفات دونية أو التحقير من شأنهم، بل نطالب بعلاجهم وإعادة تأهيلهم ليكونوا أناسا أسوياء متصالحين مع الحياة وصالحين للعيش بل ومنتجين وخداما نافعين للحياة.
إعادة تأهيل
وإذ أقول ما أقول فأنا لا أحلب نملة ولا أرضع صخرة في قمة جبل، بل أقول ذلك بناء على وقائع وأحداث وشواهد شاهدناها في حياتنا، نرى فيها إمكان تحول تلك العناصر المريضة بمرض كره الحياة والانعزالية ومحاولة هدم ما بناه الإنسان على مر العصور، إلى عناصر زاهية وباهية ومنتجة وذات باع طويل في الثقافة والإبداع والفكر والقدرة على الإنتاج. وأسوق مثلا على ذلك، أحد الشبان وكان من تلك الفئة وقد طالب وهو في انعزاليته، بصفعنا نحن أبناء الحياة بالنعال والأحذية وألغى كرامتنا الإنسانية، على اعتبار أننا لا نستحق الحياة، ثم وبعد إعادة تأهيله اكتشفنا فيه عنصرا جيدا ورافدا من روافد الحياة الفكرية والثقافية وأغنى جانبا من الحياة بالكثير من عطاءاته، وأقبل على الدنيا وغرف من محيط مباهجها واغتنى من هباتها وزها بزينتها. وللمزيد من تلك الصور البهية الناصعة المشرقة، أورد ما حدث في المملكة العربية السعودية مما سمي ببرنامج المناصحة وهو قائم على فكرة إعادة تأهيل الشبان الذين يعانون من مرض كره الحياة والذين صاروا رهينة في أيدي المتطرفين والإرهابيين، لنكتشف بعد ذلك ان هؤلاء الشبان ذوو عقول مفكرة مستنيرة وعلى قدر من الثقافة العالية والإدراك والفهم والوعي، وقد تحولوا بعد شفائهم مما كانوا فيه إلى دعاة للحياة السليمة والصحيحة وإصلاحيين ومنيرين ومرشدين لمن لايزال فريسة ذلك المرض الذي تشافوا هم منه، وذلك بعد أن تطهروا مما كانوا فيه من رجس وضلال وظلام وغيبة عن الوعي.
عالجوهم لا تدللوهم
أقول ذلك طمعا بأن تدرك حكومتنا أهمية إعادة التأهيل لتلك الفئات الإنسانية وهم منا وأهلنا وأبناؤنا وبناتنا وإخواننا وأخواتنا وأمهاتنا وآباؤنا، ولابد من إيصال تيار الحياة إليهم ودمجهم بالمجتمع من خلال ربطهم بفنون الحياة والفنون الإنسانية وما وصل إليه الفكر الإنساني، وإخراجهم من كهوف التاريخ المظلمة التي يقبعون فيها ظانين أنها أجمل ما في الحياة، غير عالمين بما وصلت إليه البشرية من رفاهية واستنارة.
إن الحكومة ملزمة بذلك من باب العدل والمساواة بين أفراد المجتمع جميعا دون تفرقة بين هذا الفريق وذاك، بل نراهم أحق منا برعاية الحكومة واهتمامها بسبب ما هم عليه من نقص وإحساس بالدونية والانسحاق، وضرورة إعانتهم ومساعدتهم على التخلص من أمراضهم لا تأتي عن طريق تدليلهم وتلبية احتياجاتهم وتنفيذ رغباتهم ومراعاة مشاعرهم وتعاطفا مع حالتهم المرضية، بل إن العكس قد يكون هو الطريق الصحيح والوحيد للعلاج، فمثل ذلك التعاطف هو أشبه بالجرعة المسكنة وقتيا للألم والتي قد يدمنها الجسد المريض ويتعود عليها. والعلاج يكمن في إعطائهم صدمات حضارية والبعد بهم عن مصادر الألم ومسبباته وليس بإعطائهم جرعات تنشيطية من الداء ذاته الذي يعانون منه. وهي أيضا مسؤولية المجتمع الذي يقع عليه واجب مراعاة أبنائه جميعا دون تفرقة، صحيحهم وعليلهم. لأن الأمم تغنى بأبنائها وتسود بهم وتتسيد، فاجعلوا من أبنائكم أبناء للحياة، لا أعداء لها، تكسبوا الحياة وتكسبوا أبناءكم.
تعليقات