مثنيا على بن طفلة وساجد لأنهما يعيشان المدنيَّة روحاً وثقافة ونفساً.. خالد الشطي يؤيد الفكر الحضري ويؤكد مدنية الدولة وينبذ «الأعرابية» لأنها يراها رجعية وتخلفا
زاوية الكتابكتب إبريل 17, 2010, 11:36 م 2387 مشاهدات 0
الفكـر الحضـري
المحامي خالد حسين الشطي
إنما توضع الدساتير وتسنُّ التشريعات وتنظم المؤسسات لتقوم الدول، وهل أن الدولة هي التي تصنع القانون والنظام، أم العكس، ففيه جدال يمكن لدعاة طرفيه أن يستدلا بما يصحح مذهب كل منهما، إنما المؤكد أن الأمر بحاجة إلى رجال، الرجال هم الذين يصنعون الدول، هم الذين يقودون المجتمع ويهدونه، فإذا استطاعوا ووفقوا في نقل التجمُّع البدوي أو الرعوي أو الفلاحي أو الحرفي أو غير ذلك من التجمُّعات إلى مجتمع مدني، ظهرت الدول ونشأت الحضارة.
كنا في الكويت حصناً صغيراً «كوتاً» فيه مجموعة من المقاتلين الأشداء يقودهم آل الصباح يتولون حماية قوافل الحجيج القادمة من إيران والعراق تقصد الحرمين الشريفين، فنقطع بهم صحراء نجد المهولة بقطاع الطرق إلى الحجاز، ثم مجموعة من البحارة يغوصون بحثاً عن اللؤلؤ، ومجموعة أخرى تسافر تمخر عباب المحيطات تتاجر بذاك اللؤلؤ وتستورد السلع الضرورية للبلاد، وقلَّة يزرعون الخضار، لا الغلال والثمار، وأخرى تصنع السفن، وجماعات ترعى الأغنام...
ظهر النفط فتطورنا وازدهرت بلادنا وصارت الكويت تستقطب القاصي والداني، بعد أن كانت بيئة طاردة لا يستوطنها إلا تلك القلة، لسر غريب لعله خارج علم الاجتماع، شيء خفي من حب وولاء ربطهم بهذه الأرض الجدباء! وأرى عمدته التسامح والطيب والكمالات التي كانت تسم السكان المجتمعين هنا وتطبعهم.
تطورنا، ولكننا لم نسمح أن يكون تطورنا مادياً فحسب، ولا ازدهارنا فوضوياً دون ركائز ترسي المدنيَّة بمعناها العميق... لذا ترانا كافحنا الرجعية كما صارعنا عباب أمواج البحار في غبب المحيطات وأقاصي القارات، بأشرعة ترفعها سواعد الأبطال وسفن تقودها عقول أفذاذ الرجال... أبينا إلا أن نؤسس لنهضتنا بما ينقلنا إلى قيم الدولة ومقدمات الحضارة، لأننا كنا متحضرين في ذواتنا، ومدنيين في روحياتنا، عرفنا ذلك من أسفارنا وانفتاحنا على الآخرين واختلاطنا بهم، وأخذنا ذلك من عطاء البحر وسواحله وموانئه، كما التقطنا الدر من أعماقه.
هذه هي الكويت، وحق للبعض أن لا يعرفها، فلا ناقة له هنا ولا جمل، ولا دور له في بنائها ولا يوماً حفل...
يجهلها وهو يعيش «أعرابيته» فهو أجدر ألا يعرف الحدود وأولى أن يتخلّف عن درك الحقائق، فينعت الكويت بالطائفية، ويحسبها لمذهب دون آخر، ويحصرها في معالم لا تتجاوز: منع شرب الدخان، وإغلاق الأسواق مع الأذان. ثم لا يراها إلا ضرعاً يحتلب، وظهراً يركب، يستنزف خيراتها بالاستيلاد الأرنبي، وفنون التزوير وضروب التحايل التي يحصد بها، بل ينتهب الخدمات الحكومية نهباً.
الكويت يا هذا وذاك دولة مدنيَّة، وليست دولة دينية، الدين فيها محترم، معزز مكرم، والمتدينون أحرار في طقوسهم وشعائرهم، ولكن المفهوم الحاكم هنا هو المواطنة لا الدين، المواطن حرٌّ في معتقده وفي سلوكه، خالَف فيه الدين أو وافقه... ترفع المساجد الآذان، فيغلق متجره مَن شاء، ويستمر في كسبه مَن أراد، مستغلاً سعة الوقت، أو عازفاً أصلاً عن الصلاة، فهو حر، وإنما يحتطب لآخرته، والله هو المثيب والمجازي، لا عصا هنا تجبره ولا آمرون يلزمونه أو ينهونه.
الكويت دولة تحترم الدين، ولكنها لا تقطع يد السارق ولا ترجم الزاني ولا توجب على المرأة الحجاب، في الكويت مساجد وحسينيات، ولكن فيها أيضاً كنائس وبيع ودور لعبادة البوذيين والسيخ.
هنا الكويت، لا إيران ولا السعودية، لا طالبان ولا جنوب لبنان...
«الآخر» هنا هو غير الكويتي، ولن نسمح للمسلم أن يكون الآخر عنده هو المسيحي، ولا للسني أن يكون الآخر عنده هو الشيعي... الكويتي المسيحي على السواء في الحقوق والواجبات مع الكويتي المسلم. لن نسمح بتشريعات تنقض مدنيَّة الدولة وتقلبها إلى دينية، ولن تنطلي علينا الخطط المرحلية والحيل الشيطانية التي تتدرج لتخرق السور وتدخل حصان طروادة في مجلس الأمة وتتوغل في الوزارات وتتسلل إلى المؤسسات!
ليعلم الجميع أنه لا يوجد في الكويت «كافر»، لكلٍّ ربٌّ يعبده ويؤوب إليه، للمسيحي ربه، وللبوذي والهندوسي أربابهم، كما للمسلم ربه، تعالى ربي وجل جلاله، هذا في المنظور المدني والقانوني، أما الديني والشرعي فأمر بين المرء وربه، وشأنه المساجد والحسينيات والحوزات العلمية والكتب الدينية، لا الدولة ومؤسساتها، ولا المجتمع في حراكه الذي يسهم – بنحو وآخر- في رسم صورة البلاد وهويتها، وفي صنع القرار السياسي فيها.
وبعد، فأنا لا أريد بهذا تمجيد الحضر والطعن في سواهم، ولست في وارد نزاع المناطق الداخلية والخارجية، ولا مقولة من ضمَّه السور أو لفظه، إنما أنا بصدد الفكر والثقافة والروحية.
أريد الفكر الحضري، وثقافة المدنية، حملها قبلي أو غير قبلي، سني أو شيعي، من أي مذهب وجماعة كان، وأنبذ «الأعرابية» أي الرجعية والتخلف من أيٍّ جاءت وكانت. فأنا أكبِر سعد بن طفلة وساجد العبدلي وأراهما يعيشان المدنيَّة روحاً وثقافة ونفساً)رغم أن أحدهما إسلامي والآخر علماني (، ويسهمان في بناء الدولة وترسيخ الوجه الحضاري لبلدي، وهما أبناء بادية في الأصل، من العجمان والمطران... بينما أجد في قلب المدينة، في كيفان أو الفيحاء أو الدسمة والقادسية، سليل عائلة موغلة في المدنيَّة، تنحدر في أصولها وتضرب أعراقها إلى العراق مهد الحضارات، أو إيران المدنيَّة العظمى، لم يعرف أجداده الصحراء يوماً ولا التخلف جيلاً... تراه «أعرابياً» في فكره، حقوداً في روحيته، رجعياً في أطروحته وسلوكه، ما زال يعيش الفزعة والإغارة والانتماء إلى النفس، ولا يرى الآخر إلا غنيمة يتحيّن الفرصة لينقض عليه ويستلبه، ماله أو بيته، أو دينه ومذهبه! ولا يكتفي حتى يناجز ويناضل ليصبغ البيئة التي تضمه بصبغته المتخلفة، ويعم بشرِّه البلاد والعباد!
هذا ما يتهدد بلدي...
لعلهم تكيفوا مع البيوت وطاب لهم العيش فيها، وما عادوا يقلبونها حظائر لمواشيهم، ويسكنون هم خياماً يضربونها في أفنية الدور الكبيرة التي وهبتها الدولة لهم، ولعلهم تغيروا حتى في كثير من سلوكياتهم وأخلاقياتهم وتعاملاتهم، وصرت تلمس فيهم الرقي والتحضر، ولكن المدنيَّة شيء آخر، المدنيَّة روحية وثقافة راسخة، إنها نفسيَّة لا يمكن لداعية أجوف أن يقضي عليها ويفنيها باستثارة تدغدغ بقايا «الأعرابية» فيهم، ولا لشيخ أخرق أن يستفز مكنوناً يتهدد كيان المجتمع ويقوض أركان الدولة.
هذا ما على المناهج التعليمية، ووسائل الإعلام، وقنوات التشريع، ومؤسسات المجتمــع المدنــي أن تسعى لترسيخه وتدعيمه، هذا هو دعامة الكويت...
وأعتقد أن الروحية والثقافة المدنيَّة هي ميزة بلدي، وإلا فالنفط والمال عند غيرنا أوفر، والعمارات والطرق والجسور أفضل وأكثر، ولكننا أكثر تحرراً ومدنيَّة وقرباً من الحضارة، لذا تجدنا سنبقى متفوقين في الفنون الجميلة، وسيبقى الفن عندهم فقيراً، وتبقى الرقصة الشعبية عندهم رقصة حرب، وتلويحا بالبنادق، وتناطحا بالرؤوس وخبطا بالأقدام ومنافسة وفخرا... والفن عندنا يختلف، «الفن عندنا غير، لأن الكويتي غير».
تعليقات