الصرخة الخالدة.. من مصر إلى العالم .. رؤية : د. #حنين_عمر

فن وثقافة

225 مشاهدات 0


على امتداد العصور، كانت مصر هي التاريخ.. وهي النبع الذي أجرى أنهار الحضارات القديمة، وكانت السر الذي استلهمت منه البشرية معاني الإبداع والمعرفة، وإن كان قدماء المصريين قد برعوا في العلوم والفنون، فإنهم قد برعوا أيضا فى ترك تأثيرهم على الشعوب الأخرى، وكان من الطبيعى أن ينعكس هذا التأثير الاستثنائى على الثقافات والآداب العالمية، وأن تتجاوز الحضارة المصرية القديمة جغرافية المكان والزمان، لتصبح إرثًا إنسانيًا تظهر دلالاته بوضوح فى كثير من القصائد والروايات، وبكل الأزمنة واللغات.

وإن البحث في مدونة الأدب العالمي، عن مصر ودلالاتها، ليس أمرًا عاديًا أبدا، بل هو أمر مدهش بالتأكيد، إذ يكشف مدى اتساع الهالة التي تحيطها منذ قرون طويلة، بوصفها ملهمة أولى، ومصدر الاقتباس التاريخي الأشهر، كما يكشف نظرة الآخر -الأجنبي- إليها، وهي النظرة التي لا تخلو من التبجيل والانبهار.

وإن كان من البديهي أن أبدأ هذا المسلك بالحديث عن أشهر الرموز الفرعونية، وأشهر النصوص التى تناولتها، إلا أنني اخترت أن أبدا الحفر من مكان آخر تماما، وتحديدًا من أولئك المسكوت عنهم، الذين لم تُحفظ اسماؤهم ولكن حفظت إنجازاتهم، وهم "بناة الأهرام"، أولئك المصريون الذين حملوا ثقل الصخور والتاريخ بسواعدهم المتعبة وأكتافهم القوية، فصنعوا من الحجارة البسيطة، لغزاً معقداً يعد من أعجب أسرار الدنيا!.

ولعل سبب هذا الاختيار، يعود إلى تأثري الشديد، بالنص الذى نحن بصدد الحديث عنه، وهو قصيدة إنسانية عميقة، وجدتها -صدفة- وأنا أنبش صناديق الشعر الأوروبي، وتحديدًا وأنا أترجم الأعمال الكاملة للشاعر الفرنسي الكبير سولي برودوم، وهو من أهم وأعظم الشعراء الفرنسيين في القرن التاسع عشر، بل هو أول فائز بجائزة نوبل  عام 1901، وصاحب تجربة شعرية وفلسفية لا مثيل لها جماليًّا وفكريَّا ،ومع ذلك فإنه غير معروف ولا مترجم عربيًّا ، ككثير من الأدباء المهمين، الذين غفلتْ عنهم منظومتنا الترجمية.
وقد بدأتُ ترجمة أعمال سولي برودوم عام 2014، ووجدت النص في الصفحة 25 من ديوانه "الابتلاءات" الصادر عام 1866م، وعنوانه "صرخة ضائعة"، ومن شدة إعجابي به، أوردته في كتابي "مموريام" الذي ضم مائة قصيدة من الشعر الفرنسي، والصادر في القاهرة عن دار تشكيل عام 2018 (ص91). وإن خصوصية هذا النص لا تكمن فقط في كونه مستوحى من الحضارة المصرية القديمة، بل في كونه تخليداً لعامل مصري مجهول مات أثناء مشاركته في أعمال بناء الهرم الأكبر، متجاوزًا المشهور إلى المغمور، ليصبح هذا الشاب المصري المراهق- على حد وصف الشاعر- جزءًا من مدونة تاريخ الأدب الفرنسي، فأي تأثير هو ذلك التأثير الذي تتجاوز قوته... الأسماء المكرسة والمعروفة، والدلالات العامة والمتداولة، لتصل إلى استلهام قصص من أناس بسطاء لا أسماء لهم، وكأن كل ما في مصر – مهما كان عاديًا- يصبح بشكل أو بآخر مصدر إلهام وإبداع إنساني.

وهكذا جعل سولي برودوم من موت أحد "بناة الأهرام" الذين ساهموا في تشييد تاريخ مصر وحضارتها، موضوع نص بديع يلامس من شدة صدقه شغاف القلب، ويصوّر المشهد المأساوي بدقة سينمائية موجعة، ولكنها في نفس الوقت ذات لمحات جميلة وشجيّة تربط إحساس الشاعر الفرنسي بالبنّاء المصري، إذ تبدأ القصيدة من "الماضي البعيد"، لتصل في آخر بيت إلى "الحاضر الرّاسخ"، محوّلةً "خوفو" إلى شخصية استدلالية فقط، ومشيرةً إلى مجد مصر الخالد الذي تحدى قرابة 4500 سنة وليس فقط ثلاثة آلاف كما جاء فيها، ولتجعل من هذه "الصرخة الضائعة"...صرخة خالدة، يمتد صداها الأبدي من مصر إلى كل العالم!.

نص القصيدة:


ظَهر لي أحدٌ ما بعيدًا جدًّا في الماضي:

كانَ عاملاً من بُناةِ الأهرامِ المُرتفعة،


كانَ مُراهقًا ضَائعًا بين الحُشودِ الخَجُولة

الَّتي كَانتْ تدُقُّ الجرَانيتَ

المُكَدَّسَ من أجلِ خُوفو .


هكذا كَانتْ رُكبتاهُ تَرتَجفانِ، كانَ يَنحَني مُرْهقًا


تحتَ الحَجَر الَّذي تَزيدُ من وزنه السَّماواتُ الحَارَّةُ،


كانَ الجُهد يَنفُخُ جبينهُ ويحفرهُ بالتَّجاعيدِ،

صَرَخ فجأةً، مثل شجرةٍ مَكسُورةٍ.


تلك الصَّرخةُ جَعلتْ الهَواءَ يَرتعِشُ، رَجَّتْ الأثيرَ المُعتِم،


صَعِدتْ، ثم بلغتِ النُّجومَ الَّتي لا عدَّ لَهَا


حيثُ يَقرَأُ عِلمُ الفَلكِ ألعابَ القَدَر الحَزينة.


صَعِدتْ، ومَضَتْ تَبحثُ عن الآلِهة والعَدالةِ،


ومنذُ ثلاثةِ آلافِ سنةٍ، تحتَ البِناءِ الهائلِ


ينامُ خُوفُو الرَّاسِخُ في مجده

-سولي برودوم – 1866.. ترجمة الدكتورة حنين عمر -2014

* شاعرة وكاتبة جزائرية

تعليقات

اكتب تعليقك