شهادة معتقل.. تكتبها نور الموصلي

فن وثقافة

الآن 300 مشاهدات 0


عن اللحظة الفارقة في حياة معتقلي صيدنايا يقول أخي المعتقل المحرر:

- كنّا نائمين حين ضجّت جدرانُ السجن بأصواتٍ غير مفهومةٍ وجلبةٍ غريبةٍ، صحونا فزعين، فصحتُ برفاقي: ابقوا في أماكنكم، لا شكّ أنه استعصاء وقد حضرته من قبل، حين يضبطونه سيعودون للكاميرات ويعاقبون كل من تحرّك من فراشه.

اشتدّت الأصوات بشكلٍ جنوني واقتربت من زنزانتتا جداً، لكننا لم نتحرك حتى فُتحت نافذةُ الزنزانة ولمحنا البنادقَ بأيادي الثوار فعلمنا أنهم الثوار حقاً، إذ من غير المسموح لأيّ عنصرٍ أن يدخل علينا ببندقيةٍ خشيةَ أن نخطفها من يديه وننقلب عليهم.

حينها ركضنا كالمجانين نصيح معهم: الله أكبر.. الله أكبر
لم يكن لدينا أمل بالخروج من هذه المقبرة سوى بمعجزةٍ إلهيّة، وقد حصلت المعجزة..

أصغي إليه بألم وأفتحُ فيديو يصوّر تلك اللحظة في سجن صيدنايا، فيخطف الجوال من يدي ويمسكه بيدين مرتعشتين ويفتح أوراقاً سوداءَ من ذاكرته قائلاً:
- هنا في السجن الأحمر.. هنا هذه هي زنزانتي، انظري إلى هذا الفِراش الملاصق للشِباك إنه فِراشي، خطفتُ مكانه خطفاً من رفاقي لأضمن دخولَ الهواء من هذه الفتحات الصغيرة، وألصقتُ فِراشي به مبتعداً عن غيري كي أضمن تأخيرَ إصابتي بعدوى السلّ ما استطعت..

في هذه الغرفة قضيتُ سنواتٍ طويلةً أنتظر مصيري الأسود، إذ كانوا يدخلون علينا كلّ أسبوع ويأخذون خمسةً منا للإعدام.. وكنا ننتظر أدوارنا.
ورغم ذلك كانت هذه الغرفة الموحشة رحمةً لنا نحلم بها حين نُعاقب شهوراً تحت الأرض في المنفردة..

دخلتُ المنفردةَ ثلاثة مراتٍ كلّ مرّة تمتدّ لثلاثة أشهر، مرّةً لأني تشاجرتُ مع سجينٍ، و مرّتين لأنني كنتُ أصلّي.
قال لي المساعد  وهو يستجوبني: اعترف أنك كنت تصلّي وسأعفو عنك. فاعترفت، فحوّلني إلى الدّولاب، صحتُ بأسى: لكنُك وعدتني. فأجابني: وقد عفوتُ، لكن الشباب لهم رأي آخر..
منذ آخر دولاب قبل ستّة أشهرٍ لا أستطيع المشي على قدمي حتى الآن، لم أجرؤ على الشكوى وطلب العلاج، فحين كان أحدنا يمرض كانوا يأخذونه ليعالجوه بالضّرب، لذا كففنا عن شكوى المرض.

في هذه اللحظة انتفض صغيري يسأله: كيف كانت ملامحُ هذا الوحش الذي عذّبك يا خال؟ فأجابه:
- لم أره قط، كانوا لا يتحدّثون معنا إلا ونحن ساجدون بين أيديهم وأيدينا تغطّي أعيننا كي لا نبصرهم، انحنى على الأرض ممثلاً تلك الوضعية.. قائلاً:  هكذا...
انهالت الدموع من عيني وهمستُ: إنه الخوف ياالله.. خوف الظالم من المظلوم!

تابعنا مشاهدة الفيديو ثم توقّف لحظة:
- هذا الممرّ انظري.. كانوا يخروجننا كلّ فترةٍ للتنفس، يفتحون باب الزنزانة فنخرج صفوفاً نمشي في هذا الممر المغلق الذي لا يكاد يبلغ طوله سبعة أمتار ثم نلتفّ بشكلٍ دائري ونعود..
سألته: وماذا كانوا يطعمونكم؟
- قطعة خبز والقليل من اللبن عند الفطور، كنتُ آكلُ الخبز وأخبّئ اللبن لأمزجه عند العشاء بالبرغل الذي يقدّمونه لنا بمقدار كأس شاي حتى لا آكلهُ ناشفاً!
تابعتُ : وماذا عن المال والطعام والملابس التي كانت تجلبها لك زوجتك كلّ زيارة؟
- كانوا يسرقون كلّ شيء، فلا يبقى لي غير القليل من التمر الممزوج بالحلاوة الذي كنت أطلب من زوجتي مزجَه كي يتركوه لي، حتى ذلك القميص الذي أرستله لي معها يا أختي هديةً بعد عودتك من الإمارات أخذوه.
وبعد كلّ زيارةٍ كانوا يضربونني ضرباً مبرحاً.
في آخر زيارة وقف عنصرٌ منهم على ظهري وأنا ممدّدٌ على الأرض وبقي يقفز فوقي مدّة.. لا أدري كم من مرّ من الوقت، لكنّي بعدها شعرت أن ظهري أصبح فتاتاً، ورغم هذا كنتُ أطلب من زوجتي أن تزورني باستمرار، لأن من يُنسى من دون زيارة يُعدم.

أخذتُ من يديه المرتجفتين الجوال وقرّبتُ منه المدفأة: يجب أن ترتاح الآن، وستحكي لي كلّ شيء لكن بعد أن ترتاح، هزّ رأسه وختم حديثه قائلاً:
-كان يظنّ نفسه إلهاً لا يجوز الكفر به، لذا بنى جهنّم تحت الأرض لكلّ من قال لا في وجهه..

تحيلني هذه الحقيقة إلى سؤالٍ مهمٍ: كيف ستحاسب المعتقلين يا الله؟ حتى أولئك الذين كانوا يحملون ذنوباً عظيمةً قبل الاعتقال كيف ستحاسبهم؟
ثم ماذا عنا نحن؟ نحن المريضين يا الله.. المصابين بداء الخوف العتيق والحزن المستعصي والفرح المباغت؟ نحتاج معجزةً ثانيةً كي نُشفى من آثار كل هذه الأمراض، معجزةً ثانيةً يا الله...

*شاعرة وكاتبة سورية

تعليقات

اكتب تعليقك