فهد الهندال: خيال الأدب الرفيع
فن وثقافةالآن أغسطس 31, 2024, 5:02 م 1815 مشاهدات 0
” الناس لا يهمهم ما أكتبه عن ما يمثلني، الناس يهمهم أن تكتب عن ما يحبونه .”
سينتارا جولدن
كانت هذه إحدى اقتباسات الفيلم التي شجعتني على مشاهدته لأكثر من مرة، لما تبيّنه من أهمية الكتابة في حياة الكاتب قبل أن تكون للمجتمع، والعكس كذلك.
يقدّم فيلم “American Fiction” أو “الخيال الأمريكي” تجربة ساخرة عن مجتمع الأفرو أمريكان، متناولا الصورة النمطية المنعكسة عنه عبر قضاياه المستمرة، كالعنصرية، المخدرات، العصابات، عدم الاستقرار الأسري و القتل دوما على يد عناصر الشرطة!
تدور قصة الفيلم حول ثيلونيوس “مونك” إليسون، وهي شخصية متخيّلة، يعمل كاتبا روائيا وفي نفس الوقت أستاذاً جامعيًّا ..
يبدأ الفيلم بمشهد افتتاحي مثير يعرض “مونك” في جدال مع إحدى طالباته “من البيض” حول عنوان عنصري للنقاش، حيث تصر الطالبة البيضاء على أن الموضوع الذي يثيره مونك فيه من العنصرية ضد مجتمع الأفروأمريكان، وهو عكس المتوقع من شخصية مونك الذي يعتقد أنها تجاوز كل أشكال العنصرية في مدينته هوليوود، ويتحدث بواقعية!
هذه الحادثة وما سبقها من حوادث سابقة لمونة، فرضت على إدارة الجامعة الطلب منه بأخذ إجازة مفتوحة، وهو ما جعله يعود لمدينته بوسطن، وهناك يواجه منعطفا غير متوقع في حياته، بوفاة شقيقته المفاجئ، ليكون مسؤولاً ًعن والدته التي تعاني الزهايمر، ليبقى معها في الواقع الذي هرب منه سابقا.
خلال وجوده يتعرض مونك للكثير من الضغوط التي تتطلب منه البحث عن مصدر دخل جديد يفي بالتزاماته مع والدته، ووفاة شقيقته دكتورة القلب، ولامبالاة شقيقه دكتور العمليات التجميلية المِثلي، وأيضا لشعوره بعدم التقدير لأعماله الروائية التي تصنّف رغما عن رغبته بأنها من (أدب الأفرو أمريكان) فقط لأنه محسوب على هذا المجتمع، ليكتبوفي ليلة واحدة، رواية ساخرة أشبه بالدعابة تحت اسم مستعار، حملت الكليشيهات المعروفة عن مجتمع الأفرو أمريكان ولغة غير معتادة من مونك الشخصية المثقفة المتعالية والرافضة لهذا المجتمع، لتكون المفاجأة من قبل وكيله الأدبي أن روايته الجديدة مطلوبة من قبل كبار الناشرين “البيض” الذين رفضوا اعماله السابقة، ليجد نفسه في مواجهة معنجاح كبير غير متوقع للرواية، وهو ما أوقعه في صراع بين واقع يهرب منه، وخيال يُعيده إليه. فواقعه لا يمكن أن يكون مختلفا عن الكليشيهات التي كتبها ساخرا، هي تمثل واقعا لحياته الشخصية والأسرية، فوالده المُتوفى دكتور عاش حياته وراء ملذاته حتى أقدم على الانتحار، وشقيقته الدكتورة تعيش واقعا اجتماعيا صعبا بعد انفصالها عن زوجها. وشقيقه كليف، تطلق من زوجته بسبب اكتشافها لحياته المثلية لا لكونه متعاطي للمخدرات. كذلك شخصية الجارة كورالين، وهي أيضا منفصلة، وتبادلت الود مع مونك إلا أنها تركته بسبب أسلوبه المتعجرف من حياة مجتمعه. إذن الواقع الذي رفضه مونك سابقا وتعالى عليه، سرعان ما اكتشف أنه حقيقي ولا يمكن نكرانه.
يطرح الفيلم ثنائية الأدب الرائج والرفيع، ويسلط الضوء على الفرقبينهما وكيف يستطيع كاتب واحد تقديمهما معًا، وكيفية الموازنة بين أدب نخبوي وآخر جماهيري. كذلك يناقش الفيلم أيضًا ثنائية أخرى بينكتابات تحاول الخروج عن الأنماط الشائعة عن كتابات فئة معينة،وكتابات تصنف على أنها أدب هذه الفئة لكونه يقدم مضامينها ضمنإطارهذه الأنماط. وهو ما أدخل مونك في جدال فكري مع منافسته وابنة مجتمعه الكاتبة الشهيرة سينتارا جولدن التي عادة تدمج هذه المضامين في كتاباتها عن حياة مجتمعها لكونه الأكثر طلبا ومبيعا عند مجتمع البيض، ولعل المفارقة التي أدت لهذا الجدال وصول روايته الساخرة والتي غيّر اسمها بكلمة “مبتذلة” للقائمة القصيرة لجائزة أدب رفيعة، جمعت الصدفة مونك وسينتارا معا في لجنة تحكيمها. وهنا يكتشف مونك تناقض سينتارا التي تكتب روايات هي أشبه بروايته المبتذلة، إلا أنها صوتت ضدها لأنها تجدها مقيته ولا تستحق الترشح لابتذالها وسطحيتها!
يسخر الفيلم من المنظومة الثقافية الأمريكية – كمثال – من خلال نجاح رواية تهكمية/ مبتذلة/ سطحية بشكل غير متوقع، لتتحول إلى فيلم مرشح للأوسكار، مما يزيد من حيرة مونك وتناقضاته الداخلية بشكل رمزي يشير بالنقد اللاذع للنظام الثقافي الأدبي كجزء من منظومة أكبرتساهم في تسليع الأدب والتنميط العنصري، والعلاقة الخفية بين الأدب والرأسمالية، مهما حاول أصحاب الأدب الرفيع نكران هذه الحقيقة ورفض هذا الواقع بخيال متوهم عن ما يكتبون. ولعل أكثر عبارة عميقة أظهرت حقيقة هذا الخيال المثالي عن الأدب، ما قاله آرثر الوكيل الأدبي لمونك: ” بأنه عليك في بعض الأحيان أن تكسر أولى قوانين البيع بعدم الاستخفاف بمدى غباء الناس” !
والعاقبة لمن يعقل ويتدبر
تعليقات