الثقافة والتراث الشعبي في قطر: تعبير عن بؤس العالم. بقلم: د. سعيد علي نجدي

فن وثقافة

الآن 982 مشاهدات 0


لا توجد جماعة من دون ثقافة تستبطن الأفراد والجماعات أنماطها بشكل لا واع، وكل ثقافة يلعب في تشكلها المحيط الذي يعيش فيه الناس، ويتبيّن مدى التقارب مع المحيط في دولة قطر انطلاقًا من محيطها العربي الإسلامي القريب من شبه الجزيرة العربية، التي انطلقت منها الدعوة الإسلامية، إضافة إلى وشائج القرابة والانتساب للقبائل العربية، إلا أنه تبقى هناك بعض التمايزات الخصوصية لجهة العادات والتقاليد، التي يلعب فيها دورًا كبيرًا ظروف المعاش. وقطر، كما هو معروف، دولة على البحر، بمعنى أن حرف الصيادين ونمط إنتاجهم القائم بشكل كبير على صيد السمك وظروف الحياة تلعب دورًا في البنى الدلالية للفولكلور الشعبي، من أغانٍ شعبية وحكم وقصص وأمثال ونكت ونوادر، والشعر النبطي المحكي الذي يعبّر عن مشاعر الناس بشكل حميم مع المحيط، بالإضافة إلى اللباس والزي، الذي يتوافق مع البيئة الحارة، والزينة والحلي للنساء، والأكلات الشعبية؛ كل هذه تعبيرات تأتي لتتلاءم مع المجال الحيوي للجماعة، والثقافة بطبيعة الحال ذات بنية دائمة التشكل انطلاقًا من التقابل والتجاور، وبالتالي فإنها تأخذ وتعيد تشكيل ما تأخذ ليتوافق مع المدلول الذي تنطلق منه الأنماط بشكل متجانس.

هذه القيم تنعكس على البنية الشعرية وعلى الفولكلور بشكل عام كرقصات العرضة، التي تظهر مدى التفاني والقوة، وهي مؤشرات تدلّ على منظومة الأفكار التي تحدد ما هو مهم ومحبذ ومرغوب، وبالتالي فإن هذه الأفكار تضفي معنى على الأفعال، بوصفها هوية وبوصلة إرشادية لتوجيه السلوك وتفاعله مع الآخر في العالم الخارجي، من هنا فهي للتمييز مع الخارج، وللتماهي مع الداخل.
يجب النظر إلى الثقافة الشعبية في أحيان عدة لحل مشكلة التغيير والتنمية في المجتمع المدني إلى الحذر من النظر إلى الفولكلور بوصفه طرفة، أو بوصفه أمرًا مثيرًا للعجب، فالحقيقة أنه شيء يجب التعامل معه بجدية، إنه تصور للعالم وللحياة، وهو خاص ببعض الفئات الاجتماعية (محددة بالزمان والمكان)، أي إنه خاص بـ "الشعب"، من حيث هو "مجموع الطبقات الخاضعة"، والفولكلور متعدد، وشديد التنوع، يقف في تعارض وتناقض ومعارضة ضد التصورات الرسمية في عدة أحيان، وضد تصورات "الطبقات الحاكمة"، وضد "الدولة"، أي إن الفولكلور يتناقض مع "المجتمع الرسمي" بشكل عام. من هنا، يمكن فهم الفولكلور باعتباره انعكاسًا لشروط حياة الشعب الثقافية، وما يشكل هذه الآلية أشياء رئيسية أو كأنواع وأطر للمعرفة الإدراكية للعالم الخارجي، كما أشار عالم الاجتماع جورج غورفيتش (1894-1965م)، وأهم هذه المنطلقات التي من خلالها تطل الجماعات على العالم من خلال الفولكلور والثقافة الشعبية.

اللغة بذاتها هي كلية من المقولات والمفاهيم، وليست جملة من المفردات الخالية من المضمون، أي أن اللهجات الشعبية هي التعبير عن الحس المشترك والحس السليم. الدين الشعبي والنظام الداخلي للمعتقدات، الخرافات، والآراء، وطرق رؤية الأشياء، والعمل، تجتمع كلها تحت اسم "الثقافة الشعبية"، ولكن اللافت، أن هذه الثقافة لم تدخل بصراع مع الجهات الرسمية في قطر من خلال عمليات التحديث وإدخال المجتمع في علاقات مغايرة لناحية العيش والمعاش المختلفة عن الحياة السابقة.
الثقافة تعبير ذاتي – فردي أو جماعي – عن العالم، أي تعبير عن نمط تمثل وإدراك ذلك العالم من قبل الفرد والجماعة (قبيلة، طبقة، شعب… إلخ). وبهذا المعنى، تعيد الثقافة – في ذلك التعبير – بناء العالم على نحو مختلف عن الهيئة "الطبيعية" التي يوجد عليها خارج أي إدراك له. لكن الثقافة، إذ تعيد ذلك البناء من خلال عملية التعبير، أو الإنتاج الرمزي، تفعل ذلك على أنحاء مختلفة: على نحو مكتوب، وعلى نحو شفهي، صوتيّ وحركيّ. ليست الثقافة المكتوبة – بما فيها المعرفة النظرية والتجريبية– إلا لحظة بسيطة من لحظات التعبير الثقافي، تمكن تسميتها بلحظة التعبير عن الفاعلية المنطقية، أو العقلية، أو الاختبارية، للتمثل الإنساني للعالم. وهي إذ تظهر في صورة مكتوبة، تتخذ لغة معرفية ومفهومية خاصة بها، يستقل بها المجال المعرفي عن سواه من مجالات الثقافة المكتوبة كالأدب – مثلًا – بأجناسه التعبيرية المختلفة.

الثقافة الشعبية مقابل الثقافة العالمية
____________________________

الثقافة - أيضًا -هي التعبير الشفهي (غير المكتوب)، ممثلًا في أجناس مختلفة من الفنون، ومن التعبير الحركي الذي يتخذ الجسد مادة له في المقام الأول. ففي الغناء والأمثال والسير الشعبية، وفي النحت والفن التشكيلي، وفن العمارة والنقش على الخشب أو المعادن والجبص والرخام… إلخ. وفي الوشم ("النقش" على الجسد)، وفي التطريز والحياكة وسوى ذلك، نصوص من التعبير الثقافي الشفهي، لا تقل قيمة عن النصوص المكتوبة في مضمار التعبير عن نوازع الذات وحاجاتها الجمالية، وعن نوع تفاعلها مع العالم المحيط، بل نستطيع أن نرصد التجليات المختلفة لهذا التعبير الثقافي حتى في المأكل، والملبس، وطقوس العبادة، ومراسيم الاحتفالات والأعياد والمواسم والمآتم وغيرها، فيما يسمى بمنظومة العادات والتقاليد والمعتقدات. إنها جميعًا أشكال مختلفة من الإفصاح عن الذات وعن الوجدان الفردي والجمعي، وعلى صفحتها، تمكن قراءة المجتمع الذي تعبِّر عنه، وبنيته العقلية والتي من خلالها نقوم بضرب لفكرة العصبيات العرقية وتفوقها، بتعبير عالم الأنثروبولوجيا كلود ليفي شتراوس (1908-2009م)، لأن هذه الثقافة هي التعبير عن العقلية وشخصيتها، ففيها يخرج ما بداخل مستودع الذاكرة من معطيات قابلة للتحليل الاجتماعي.
لا تعني شفهية الثقافة الشعبية وتلقائيتها وقوعها في دائرة السطحية واللاعقلانية واللامنهجية، كما تدعي بعض الأجهزة الثقافية السائدة، إنها في حقيقة الأمر تعبير عميق عن تمثلات معقدة تنتجها الجماعة، تتوسل بواسطتها فهم الظواهر وإدراكها، ومحاولة التأثير عليها وتوجيهها، من منظورات أسطورية وخرافية وجمالية، ومعرفية أيضًا، سواء بواسطة وسائط شفهية أو بصرية أو كتابية.
تتسم الثقافة الشعبية بكونها لا تخضع للرقابة المؤسسية (ستتصادم مع الرقابة بالتأكيد)، بينما تخضع الثقافة العالمة لرقابة المؤسسة، بل لرقابة الأنا/ الوعي، بينما تفلت الثقافة الشعبية من أية رقابة، بما فيها الرقابة التي يفرضها الأنا/ الوعي على اللاشعور/ اللاوعي، على نحو ما يكشف التحليل النفسي الذي يرى "النكت" مجالًا يتحرر فيه اللاوعي من رقابة الوعي، وكثيرًا ما نعثر – بجانب النكت – على حكايات وأغانٍ تخترق المحظور في القيم السائدة، سواء على الصعيد الديني أو الجنسي أو السياسي. لقد كانت المحرمات والنواهي حاضرتين في كل العلاقات: الأسرية، والاجتماعية، والسياسية، وعلاقات العمل، والعلاقة بالكون وبالطبيعة، ومن ثم، أنتجت الثقافة الشعبية كمًّا نوعيًّا من المنتج الثقافي: قصةً ومثلًا ونكتةً وسيرةً… إلخ، للتعبير عن موقف الجماعات من العالم والحياة، إدراكًا، أو تفسيرًا أو تبريرًا أو سخريةً، حسب الموقف والسياق وطبيعة كل نوع ووظيفته، مما يجعل من الأنواع الأدبية الفولكلورية أنواعًا حتمية، لإحداث التوازن والمقاومة، في واقع تاريخي يقع داخل دائرة التسلط، والاختلال الاجتماعي.
الأغاني الشعبية
نأتي إلى الفنون الشعبية حتى نستطيع أن نتوفر على فهم كاشف لها، وما تحويه وتعكسه من مظاهر الحياة وتفاصيلها ويومياتها، لأنها الدال على روح الثقافة وأنماطها الاجتماعية والاقتصادية وحتى السياسية، من هنا تعد الموسيقى والغناء الشعبي التعبير الأقوى عن هذه الثقافة، فالإيقاع والغناء يأتي انسجامًا مع البنية المجتمعية، التي تستبطن أدواتها ومدلولاتها في الغناء والشعر والإيقاع والرقصات، لأنها التعبير عن الحياة ورؤية العالم والجغرافيا والحرف والصيد وما إلى هنالك من تفاصيل، فالفن يكون في أحيان عدة تعويضًا عن بؤس العالم ووضع الحقيقة وملامحها بشكل محسوس ومرئي، وهو تعبير عن الرغبة والحب والتواصل والإلفة والأهم عن قيم المجتمع وعاداته وتقاليده .
في هذه الفنون الشعبية كانت الآلات الموسيقية مرتبطة بالإيقاع والنقر، كإيقاعات البحر، وهي قديمة لأننا نجد أخبارها في كتب التراث، على سبيل المثال في رسائل إخوان الصفاء وغيرها، في الإشارة إلى الأبعاد الحماسية التي تلعبها لعمال السفن والصيادين، ودول الخليج وقطر تحديدًا بما أنها دولة بحرية فإنها تتمتع بهكذا نوع من الإيقاعات. من هنا نجد أن هناك نوعًا من الإيقاع البحري في دولة قطر ويُسمى (السامري)، وأغاني (الصو)، تستعمل فيها الطبول والطارة والمنحاز الخشبي، مع ضرب الأقدام على الأرض بشكل منسق لتنظيم الإيقاع. وهناك ما يقارب الستة وتسعين إيقاعًا، حسب النشاط والمناسبة ما بين البحر والبر منها ما يسمى (الدواري)، أو (السنكي)، (الحدادي)، (اليامي)، و(الخطفة)، وهذه الإيقاعات ذات نغمات متعددة، تستخدم فيها الطبول وأهمها (المرواس)، التي تختص بها صناعة تسمى (الترقيم) لشد الجلد حول الطوق الذي عادة ما يكون من قضيب الخيزران، وهذه القضبان من شجرة الدلفى تستخدم المرواس لغناء (الصوت)، الشامي والعربي والروماني والخيالي. ويرافق الصوت تصفيق منسق وهؤلاء المصفقون يشكلون حلقة حول العازفين يتراوح عددهم ما بين العشرة أشخاص ليصل إلى نحو الأربعين وما فوق مصفقًا. وهناك أنواع من التصفيق (التصفيق الكبير)، (البيذاني)، (الخب أو التخبيب) أو يسمى التنجيز، (طق الأصبع) وعادة ما يكون طق الإصبع بمصاحبة طرقعة اللسان.

يتألف المجتمع القطري من قبائل عربية من الجزيرة العربية، وتحديدًا بصورة خاصة من نجد، وكذلك من قبائل عربية انتقلت من فارس ومن الساحل الإيراني إلى الساحل القطري في رحلة العودة إلى وطنهم ثانية، وهؤلاء يطلق عليهم اسم (الهولة) أو الحولة

وبطبيعة الحال فإن هذه القبائل حملت معها فنونها وآدابها من الصحراء ومن الساحل البحري ما شكل غِنىً في المدلول الثقافي، ليعاد تشكيل هذه التعبيرات الموجودة في الشعر والرقص والغناء مع ما يتوافق مع البيئة القطرية، لهذا نجد في الأغنية الشعبية تنوعًا حسب كل مناسبة.
لذلك نجد أغاني لها علاقة بولادة الأطفال، وفترة الحمل، فينشد الناس على سبيل المثال:
هوّن الله عليها
مريم حويمل هوّن الله عليها
استر الله عليها
أيضًا من ملامح الأغنية الشعبية ما له علاقة بهدهدة الطفل (يا رب طول عمره يكبر ويفضي باله)، وكذلك الأغاني التي لها علاقة بالختان، وهذه المضامين تبين إلى حد كبير مدى الإهتمام بما له علاقة بالأطفال، وما يزرع في وعيهم منذ الصغر من خلال الكلمات المليئة بالمودة والألفة.
وللموضوع تتمة

*كاتب وباحث لبناني

تعليقات

اكتب تعليقك