محمد عفيفي .. الشاعر جارُ النبيّ .. بقلم: محمد المتيّم

فن وثقافة

1752 مشاهدات 0


ما إن تذكر اسم الشاعر محمد عفيفي مطر، في أي منتدى، حتى تجري على الألسنة جملته الشهيرة "هل رجلٌ وضربَتُه تجيء من الوراء؟!".. حتى صار عفيفي الشاعر علامةً صارخةً على الوضوح في الغضب والرضا، غير أن آفتنا العربية أننا لا نعرف لمثقفينا حقهم إلا إذا أوذوا في سبيل فكرتهم، مثلما هي الحال مع عفيفي الذي طحنت عِصيُّ المعتقل والمنفى عظامه!

عاش عفيفي مطر "مُغيَّباً/منسِيّاً" بفِعل فاعل، فهو المطرود من حفل المؤسسة الرسمية، والمنبوذ -دون إعلان- من أراذل الجماعة الثقافية، تارةً لِلُغَتِه المُلْغِزَة -زعموا- وتارةً لأنه واجَهَ الأصوليَّة الفكريَّة -التي راحت تتمدَّد في الوادي- على طريقته الخاصة، لا على الطريقة المستوردة.

كانوا يمقتونه، وكان يعرف، وكان  شريفاً في خصومته؛ فلا "التجريس" شيمَته، ولا التكالُب صِفَته، ومذهبُهُ مذهَبُ الشاعر العربي القديم "أغشى الوغى وأعفُّ عند المغنمِ". قضى عمره يغشى "الوغى" الثقافي ببصيرةٍ حادَّة، واطِّلاعٍ دؤوب، وينتصر لما يراه حقاً، ولا يخضع للابتزاز من أي سُلطة (سياسية أو ثقافية) تمتَهِن التنابز بالرجعية أو التناجز على صولجان الحداثة!

يُحَدِّثني روائيٌّ مصريٌّ نقلاً عنه، أنه ذات مساء في باريس جمَعَتْ عفيفي جلسة مع شاعر عربي "مشهور" وثلاثة مثقفين فرنسيين، وراح الشاعر العربي يسخر من شخصية "عمر بن الخطاب" فما كان من عفيفي إلا أن رشقه بالكأس التي أمامه!

يمكن للمتصيِّد اتهامُ عفيفي بالعنف بسهولة، لكن في الحقيقة لم يكن سلوكه عدوانياً ضد الرجل أو مدافعاً عن ابن الخطاب، بقدر ما كان ينقذ ماء الوجه العربي وهو يُراق على موائد باريس تملُّقاً لمستشرقيها لا عن نقاشٍ معرفيٍّ جادٍّ وأصيل!

في مجموعته "ملامح الوجه الأمبيذوقليسي"، يكتب عام 1966:
"الحقُّ قد يُقال مرتين:
فمرةً يقولُهُ العَرّاف
ومرةً يقولُهُ السّيّاف!".

وعفيفي عرّافٌ صاحب نبوءةٍ قديمةٍ، شرع في قَوْلِها منذ مجموعته "من مجمرة البدايات"، وللسيّافِ أيضاً كلمته البادي أثَرُها على أنف عفيفي الدامي المهشَّم، و"لاظوغلي" شاهدٌ على الموقعة!

في كتابه "حكايات عن ناس طيبين" يكتب الأديب سعيد الكفراوي "شهادة على البكاء في زمن الضحك" يحكي فيها عن زيارته لعفيفي مطر في السجن، يقول:
«ضغط المأمور على جرس فدخل جندي أدى التحية، وطلب منه المأمور أن يُحضر مطر، تداخلت الرؤى أمامي مثل خيوط الدخان، أفقتُ وعفيفي يقف أمامي، خرستُ حين رأيته، كان يتلفع بتلفيعة ريفية، ويطوفُ بوجهه ذلك الحزن الذي أعرف، كأنه فوجِئ بي، أخبرني بعد الإفراج أنه ظن أنهم اعتقلوني أنا أيضاً، كان حزنه ينتقل إليَّ، وأنا مروّع تمامًا وأنا أتأملُ ذلك الجرح الممتد من الجبهة حتى أسفل الأنف، كان جرحًا شريرًا وخائنًا، وأنا كنت أهتف بيني وبين نفسي: لقد عذَّبوه.. يا للعار!».

كان عفيفي عربياً حتى النخاع، وقصائده -حتى النثرية منها- عربيةٌ خالصةٌ، فعلى مستوى المعجم والأخيلة والنَّفَس الشعريّ هو امتدادٌ لأسلافٍ شعريين لا يتبرَّأ منهم ولا يتعالى عليهم ولا يتورَّط فيهم، رغم ثقافته الموسوعية واطِّلاعه على المنجز الحضاري الأعجمي.
وربما كان هذا باب فردانيَّتِه في شعريتنا العربية، وفي الوقت نفسه باب إيغار الصدور عليه، فأثَرُ العِصِيّ "المملوكية" على جسده فاضحٌ لقشرة التحضُّر الزائفة.

دفع الشاعر ثمن كل كلمةٍ قالها بضميرٍ يقِظٍ مستريح، لأن كلمته تخصُّه، فأصحاب الكلمات المستوردة ليسوا بحاجةٍ لتسديد فواتير، فمِنْ "دبدوب رحمة" وحتى عصا عمّه "معوض في لعبة التحطيب"، كانت كلماته كلها خالصةً له، وهذان الأمران: عربيَّة قصيدته والثمن المدفوع.. همّا سِرُّ حضوره الآسِر في المواسم الطالعة.

باستعراض مدوَّنَة الشعر العربي لا يخرج تعاطي الشعراء مع شخص النبيّ عن نمط من ثلاثة، إمّا مدحاً للمحاسن والشمائل، وإمَّا تلبُّساً لقناع النبوَّة من قِبَل الشاعر، على طريقة ثنائية الشاعر/النبيّ، فيُسْقِط الشاعر تجارب النبي من البِشارة والاضطهاد والغربة على تجربته الشخصية، سيّما والتقاطعات متعددة بين النموذجين من حيث مفاهيم: الإلهام/الحاجة لجمهور/الرسالة المُوحاة... إلخ.
والنمط الثالث هو محاورة تجربة النبيّ عبر تقديم قراءة جديدة لها، ومحاولة ضَخِّ رؤى واستنتاجِ تجلياتٍ جديدةٍ للتجربة الروحية القديمة، تتَّسِق مع مفاهيمنا المعاصرة دون افتئات على التجربة، وهذا ما نستَجْليه بوضوحٍ في الإهداء الذي صدّر به عفيفي ديوانه "أنتَ واحِدُها وهي أعضاؤك انتَثَرَتْ"، الذي جاء هكذا:
"جرأةُ إهداءٍ
إلى مُحَمَّد...
سَيّد الأوجُهِ الطالعة
وراية الطلائعِ من كلِ جنسٍ
منفرِطٌ على أكمامِهِ كلُّ دمعٍ
ومفتوحةٌ ممالِكُهُ للجائعينَ
وإيقاعُ نعليهِ كلامُ الحياةِ في جسدِ العالم".


يرى الناقد د. صلاح فضل في دراسةٍ له، أن عفيفي كان يَعْمَد إلى توريط القارئ في التباسٍ ما بين الشاعر والنبيّ، بيْدَ أنني أرى هذا إدراجاً لعفيفي ضمن النمط الثاني من الشعراء ــ الذي يرتدي الأقنعة!
الإهداء واضح الدلالة بلا التباس، ويُحيل إلى طبيعة إيمانية خاصَّة، تتمثَّل في أن الشاعر عندما يؤمن بالرسول تنفذ بصيرته إلى جوهر الرسالة، ويُترجم بكلمته المعنى الحقيقيّ؛ معنى أن النبوَّات لم تأتِ إلا لتخرج بالناس من ضيق القبيلة إلى سعة البشرية، لتواسي الدامعين، وتُطعِم الجوعى، وتصُبَّ الحياة في جسد العالم الذي يحتضر.
وما يؤكِّد أن الإهداء لا يسمح بالالتباس، أن عفيفي في مجالسه كان يُصَرِّح باعتبار هذا الإهداء تحدّياً، لأن الديوان صدر في بغداد في ذروة سطوة حزب البعث الاشتراكي.

كانوا يمقتونه، وكان يعرف. لذلك اعتزلهم في شَمَمٍ وكبرياء، وفيما هو ملفوظٌ منهم أوى إلى ظلال النبيّ، يقرأ التجربة ويُعايشها، ويرمونه بـ"السلفية" ولا يعبأ، وأقرأ من الديوان المذكور قصيدته "امرأةٌ ليس وقتها الآن"، فلا تحضر أمامي غير خديجة، رغم عدم وجود أي ذِكْرٍ مباشرٍ لها، لكن إهداء الديوان الجريء "إلى محمد..."، يرفع حُمَّى التأويل في ذهني إلى أقصى درجاتها، خصوصاً مع عبارات من قبيل:
- اصدَعْ بما تحلُمُ، الوقتُ أوسعُه مرَّ
- أربعون من العُمر ولّت، بلادٌ تولَّت
- أخرجوكَ من الأرض، كانت حواراتُهم لغةً لستَ منها
- لا تعدُ عيناك عنهم إذا دخلوا الحُلمَ أو خرجوا
- هل مُخرجوكَ هُمُو من خُطاك أمِ الأرض؟!
- زمَّلَني الصيفُ والصوفُ تحت فضاء السماوات
- الخاتمُ العائليُّ مضيءٌ وهذي هي امرأتي
- لست وحدك فاهجرهمو -حانَ وقتُكَ- هجراً جميلاً
- هل ترحلين؟ أراحِلَةُ أنتِ؟
- ما هَمَّ والوقتُ ليس لنا؟!


وعلى امتداد القصيدة تُحيل الشواهد إلى دور خديجة في تجربة النبوَّة، دون ذِكْر خديجة أو النبيّ. لقد عالج عفيفي مركزيَّة المرأة في التجربة برؤية حداثية، وهذا ما كان يُزعج مُتَهدِّلي الكروش على المقاعد الوثيرة منه، أنه ليس رجعياً ولا ضحلاً كما يتمنَّونه، كان دائماً يخذلهم بتوقُّد المعرفة في ذهنه، والصدق بين جنبيه.

في سِفْرِه البديع "كتاب النداءات"، وهو ضمن أعماله النثرية، يتحدَّث في فصل "النداء الأعظم" عن خمسةٍ أحدثوا انقلاباً كونياً غيَّر مجرى التاريخ؛ هم رجلان وامرأة وطفل وعبد، فيقول:
"كانوا خمسةً لم يجتمع مثلهم في مكان أو زمان من قبل أو من بعد، ولم يُحدِثْ خمسةٌ مثلهم انقلاباً كونياً غيَّرَ جغرافيا النفوس والعقول والقلوب وتاريخ الأرض كما أحدثوا؛ رجلٌ وامرأةٌ هما الوالدان اللذان ينتسب إليهما ألوف الملايين من الأبناء في كل جنس، وأخٌ لهما وَضَعَ على صفحة التاريخ خاتَمَه الممهورَ بالصدق والتصديق والصداقة، وصبيٌّ تقطَّرَتْ في قلبه الحكمة والفطرة الزكيّة المطهَّرَة، وعبدٌ.. ما أعجَبَه من عبد! هو أول من رفع النداء الأعظم، وإلى آخر التاريخ".

هل عرفتَ الخمسة؟
النبي وخديجة وأبو بكر وعليّ وبلال/العبد الرافع النداء الأعظم. لقد آمن عفيفي مطر بالدين رافعةً حضاريةً، ودافع عنه ضد الاختطاف الأصولي وضد الانسحاق أمام الفكرة الوافدة/الطارئة، وعاش زاهداً زهداً حقيقياً، يأكل من كَسْبِ يده، ولا يقتات على موائد "المماليك العتاةُ الأقدمونَ المُحْدَثونَ (الذين) يتنزَّلونَ خلائفاً من هَيلمان الجوعِ والفوضى"، ومات بعد أن غَسل كفنه بماء زمزم وجفَّفَهُ في الحرم.. فعليه السلام!

* الكاتب الأديب المصري القدير محمد المتيم كتب مجموعة من المقالات الرصينة عن ثلة من الشعراء العرب ونشر معظمها على موقع منصة الاستقلال الثقافية، وقد إستأذنته شخصيا لنشر هذا الموضوع  عن الشاعر محمد عفيفي شاكراً له هذا التجاوب برحابة الصدر ، آملاً استمرار التواصل.

تعليقات

اكتب تعليقك