حسين الراوي: من أجل صلالة (2)
زاوية الكتابكتب حسين الراوي مارس 21, 2024, 11:43 م 2376 مشاهدات 0
في الحلقة الأولى (من أجل صلالة) أضاء الكاتب حسين الراوي على (خطأ إجرائي) في المطار حرمه من اللحاق بالرحلة المتجهة من الكويت إلى مدينة مسقط. وإلتزاما منه بمواعيد تقديم دورة تدريبية عن (كتابة المقال) في صلالة، دفعه ذلك الأمر إلى خوض غمار تجربة سفر عبر مطاري دبي وابوظبي غير مضمونة للوصول في الوقت المحدد. وفي التالي يستكمل الحلقة الثانية (من أجل صلالة).
«السلام عليكم ورحمة الله»، كان صاحب ذلك الصوت شخصاً واقفاً بجانبي في مطار دبي، فرددت عليه السلام دون أن ألتفت إليه. ثم استطرد ذلك الشخص قائلاً: «إلى أين تود الذهاب يا أستاذ؟ لقد رأيتك مررت على ثلاثة سيارات أُجرة ونزلت منها». مددت له يدي بتذكرة الطيران التي ستنطلق من مطار أبوظبي إلى مطار صلالة، دونما أن أنظر له.
أمسك ذلك الشخص بتذكرة الطيران، ثم دقق النظر فيها بعينين فاحصتين. التفت إليه وسألته: «هل تستطيع ذلك»؟ نظر إليّ سريعاً ثم أعاد النظر للتذكرة، ثم هز رأسه بالإيجاب، وقال: «من فضلك أرجو أن تستمع لي جيداً، إن المسافة من هُنا من مطار دبي إلى مطار الشيخ زايد في أبو ظبي هي 123 كيلو متر تقريباً، وهي بالعادة تُقطع تقريباً بساعة و10 دقائق، والطريق المؤدي إلى هناك يوجد به العديد من كاميرات الرصد المرورية، لكن لعبتي ستكون بعد أن أتجاوز كل كاميرا من كاميرات السرعة على ذلك الطريق، بحيث سأنطلق بأقصى سرعة أستطيعها، وأظن بحسب خبرتي بأني سوف أوصلك إلى مبنى المغادرة المذكور في مطار دبي قبل موعد إغلاق الكاونتر بـ15 دقيقة أو 10 دقائق، إن شاء الله تعالى».
بخُطى سريعة اتجهت أنا وذلك الشخص الذي يعمل سائقاً حُراً لحسابه الشخصي نحو سيارة خاصة، كانت راكنة في المواقف العمومية بمطار دبي. ثم ركبنا السيارة معاً، وانطلقنا باتجاه مطار الشيخ زايد في أبوظبي.
في أول الدرب سألت السائق: «هل أجد معك ماء»؟ فال: «لا، سوف نشتري الماء لاحقاً من إحدى المحطات على الطريق». كان ذلك السائق في كل مرّة يتجاوز فيها أي كاميرا من كاميرات الرصد المرورية يعود من جديد لقيادة السيارة بسرعة عالية ومدهشة، وكان قلبي ومزاجي يطربان لتلك السرعة المطلوبة لإنجاح المغامرة!
بعد أن تجاوزنا ما يقارب من 50 كيلو أشار السائق بإصبعه نحو الزاوية اليمنى من الطريق، وقال: «هناك عند تلك المحطة سوف نتوقف قليلاً لأشتري لك الماء والقهوة». قلت له: «إياك أن تتوقف، أكمل المسير، الماء والقهوة كلاهما الآن ليس أهم من صلالة والوقت والمسافة»!
واصل السائق الطريق بحيوية وتحد، وأنا أجلس بجانبه مُعلقاً طوق أمنياتي وآمالي وتطلعاتي في رقبته، وكنت كلما شعرت بأن مؤشر معنوياتي بدأ يهبط أثناء الطريق، أُرجع ظهري ورقبتي إلى الوراء وأُرخيهما على المقعد، وأنا أنظر من حينٍ إلى حِين بخلسة نحو وجه ذلك السائق مرّة، ومرّة أنظر إلى عدّاد سرعة السيارة، ليس لأي شيء من الممكن أن أقوم به، بل فقط لكيّ أحاول التفرّس وقراءة رموز الموقف والرحلة وملامح السائق، حيث إن الوالدين لهما خبرة كبيرة وتجارب ممتازة في عالم الفِراسة، ولقد اكتسبت منهما نسبة مرتفعة من تلك الصِفة العجيبة في تفاصيلها ودلالاتها والربط بين رموزها.
بعد فترة نعست، وثقُلت أطراف جسدي، لكن عقلي لا يزال مُنتبهاً جيداً، كعسكري بروح ذئب، أوكلتُ له مهمة المراقبة ليلاً من أعلى البرج!
لم يكن هناك شيء يساعد على الانغماس بالنوم مُطلقاً، كان هناك فقط قلق وترقُب وسرعة عالية، ونوافذ تقاوم صوت الهواء، وقلب يتمنى أن يهدأ ويطمئن بوصوله إلى مدينة الحُب صلالة.
فجأة... انخفضت سرعة السيارة تدريجياً، شعرت بذلك في لحظة استرخاء، انتبهت إلى الطريق فَلم أر شيئاً أمامي، ثم سألت السائق: «مابك» ؟ قال: «لابد من التزوّد بالبنزين، ما تبقى منه لن يكفينا». سألته: «كم تبقى عن مطار أبو ظبي»؟ أجاب: «15 كيلو فقط». قلت له: «هل سأتمكن من الوصول قبل أن ينفد الوقت؟ قال:«السرعة في الحركة سوف تحسم ذلك يا صديقي».
قبل أن يتوقف السائق عند آلة تعبئة البنزين، أخرج رأسه من النافذة والسيارة تسير، وقال بصوت عال لعامل المحطة: «زوّد السيارة
بـ 30 درهماً بسرعة». ثم أوقف السيارة واتجه راكضاً إلى سوبر ماركت المحطة، ثم خرج منه سريعاً وهو يركض أيضاً، وفي يده كيس به قنينتا ماء، وفي يده الأخرى الـ 30 درهماً ممدودة لعامل المحطة، وكل ذلك كان من أجل ألا يُضيع الوقت!
دخلنا مطار الشيخ زايد في أبو ظبي، التفت إليّ السائق مبتسماً، وقال:«الحمد لله يا صديقي، لقد نجحت في إيصالك في الوقت المطلوب، ولكن يتبقى عليك أن تنجح أنت في الوصول إلى كاونتر الطائرة التي سوف تنقلك إلى صلالة». ثم أكمل:«أعطني الآن قبل وصولنا الـ350 درهماً التي اتفقنا عليها، من أجل ألا تتأخر عند نزولك من السيارة».
أخرجت من محفظتي 600 درهم وقدمتها له، ففرح السائق، وأشرقت ملامحه بالسعادة، واسترخت أعصابه التي كانت مشدودة طوال الطريق، وأخذ يهز رأسه مبتهجاً وهو ويردد عبارات الشكر والثناء.
فور توقفنا عند مطار المغادرة أنزل السائق الحقيبة بسرعة من صندوق السيارة، ووضعها في عربة الحقائب، وقال وهو يضع يده على كتفي:«هيا امضِ بسرعة نحو باب الدخول، أتمنى لك حظاً سعيداً». لم أستطع أن أودع ذلك السائق من دون أن أعانقه، لذا عانقته وشكرته وودعته بابتسامة.
دخلت مبنى المغادرين (A)، فرأيت أمامي مجموعة من موظفيّ استعلامات المطار، سألتهم وأنا أمر من جانبهم عن كاونتر طيران العربية، أجابني أحدهم وهو يشير بيده شمالاً:«من هُناك، المدخل الرابع، المسار CH».
بالآمال والشوق وشيء من القلق كنت أدفع عربة الحقائب، وكنت أتمنى لحظتها لو أن لي جناحين كبيرين أسابق بهما الزمن، ورغم أن خطواتي كانت سريعة إلا أنني أحسست بثقل يصيب قدميّ من التعب الذي لحق بهما.
عند وصولي للمسار الثالث وقبل أن أصل للمسار الرابع (CH)، سمعت صوتاً واضحاً لفتاة، وهي تنادي مُرددة:«صلالة، صلالة، صلالة». فاستيقظت جوارحي ونشطت روحي، وكأنه صُبّ على رأسي دلو ماء شديد البرودة.
مضيت أدفع العربة بهمة وخطوات سريعة، إلى أن التقيت بتلك الفتاة التي تردد: (صلالة) عند بداية المسار الرابع (CH)، فرفعت لها يدي عالياً، فأشارت لي أن آتي لها سريعاً، ثم فتحت لي على الفور الشريط الحاجز الذي يُنظم طابور المسافرين، لكيّ تختصر عليّ المسافة والوقت. قالت تلك الفتاة بحرص:«هيا ادخل بسرعة، سوف نغلق الكاونتر من بعدك»!
قال لي موظف الكاونتر:«حظك جيد، لم يبق من موظفي شركة طيران العربية إلا أنا، على الرغم من انتهاء الوقت»! ابتسمت له ثم وضعت حقيبتي في المكان المخصص لوزن وشحن الحقائب، وبالكاد كنت أستطيع أن أرفع حقيبتي، بسبب ما كنت أعانيه من تعب وسهر وجوع وعطش وضغط نفسي. أخذ موظف الكاونتر يُحدق في وجهي، ثم قال:«من أين أتيت؟ يبدو عليك التعب». ومن دون أن أجيبه بأي كلمة، أخرجت من جيبي تذكرة طيران تلك الرحلة التي فاتتني من الكويت إلى مسقط، فقدمتها له، فلما أمعن النظر فيها، وضع يده على فمه، ثم رفع يده من فمه ووضعها على جبينه، ثم قال:«يا الله، لقد تعبت كثيراً، لقد حققت شيئاً صعباً». وواصل حديثه:«سوف أنتقي لك مقعداً ممتازاً وفق الصلاحيات التي أتمتع بها كمسؤول». ثم أعطاني تذكرة الصعود للطائرة، فشكرته وودعته وأنا أبتسم له.
اتجهت نحو بوابة الصعود للطائرة وعندما عرفت أين مكانها، جلست عند أقرب مقهى منها وطلبت قهوة اسبرسو 3 Shots، ثم أنزلت حقيبتي من كتفي وخلعت قبعتي، وأسندت ظهري على ذلك الكرسي العريض، واغمضت عينيّ، وأنا أشعر بحرارة كوب القهوة في قلبي.
تعليقات