وليد الجاسم: أعداء القهوة... معركتنا أكبر بكثير

زاوية الكتاب

كتب وليد الجاسم 551 مشاهدات 0


«بادئ ذي بدء... لستُ ضد المقاطعة، قاطعوا ما شئتم حيثما شئتم طعاماً وشراباً ولباساً وركاباً وكل ما شئتم، فهذا حق لكم لا يناقشكم فيه أحد، ولكن لا تسمحوا لأحد باختزال المشهد المريع كله في زاوية ضيقة يصور فيها المقاطعة انتصاراً، فيخدع نفسه شكلياً ويلتف على ضميره عملياً لإراحته ومن ثم إدخال ذاته في حالة افتراضية غير واقعية بأنني أديتُ واجبي تجاه فلسطين وأهلها».

أتعجبُ كثيراً من الحالة المفرطة للظاهرة الصوتية التي تتلبسنا أكثر وأكثر منذ وصفنا بها الراحل عبدالله القصيمي الذي أعيته الحيلة في نهوض العرب فبحث عن تفسير لحالتهم المتخاذلة حتى أراح واستراح بوصف بليغ ليس له مثيل في الاختصار...«العرب ظاهرة صوتية».

منذ شهور مضت وتحديداً منذ أكتوبر الماضي ونحن في جلساتنا الخاصة والدواوين والبيوت ومقاطع السوشيال ميديا نستمع يومياً إلى مَن يشرحون لنا بحماس منقطع النظير أهمية الاستمرار في مقاطعة «كوب القهوة»!! ويبيّنون لنا يومياً كم خسرت شركة كوب القهوة !! وكم تراجع سهمها!! وكم انخفضت قيمة شركة كوب القهوة!!

أمثال هؤلاء ممن اختصروا المأساة الإنسانية والكارثة القومية والتخاذل الديني الذي نمارسه في شركة كوب القهوة أقول لهم (ماشي يبه، أنا معاكم) وسحقاً لشركة كوب القهوة، ولتذهب القهوة وكوبها وشركتها الأم ومزارعها إلى الجحيم، فهي لا تهمني في شيء... ولكن ماذا بعد؟ ماذا كسب أهل فلسطين في مِحنتهم بعد كل ما مضى من شهور؟ هل راجعت نفسك بموضوعية؟ هل أنت راضٍ عن نفسك عندما تكتفي بهذا ؟ هل هذا هو انتصارك حقاً؟

من ضحك عليكم وعلينا، وأقنعكم وأقنعنا أن انتصارنا في حرب الإبادة الجارية ضد إخوتنا هو بهزيمة كوب القهوة؟ كيف اختزلنا كل الكوارث المتواصلة منذ السابع من أكتوبر، وكل جرائم الإبادة وكل التجويع وكل الحصار وكل جرائم الطفولة والإنسانية والحرب -الحالية وما سبقها- لتكون في هزيمة كوب قهوة.

هل استدرج الإعلام الصهيوني جموعنا -بخباثة لا نجيدها- لنختصر الحرب هنا !! فتصبح المعادلة كالتالي:

هم يحتلون أراضينا، ويسحقون بيوتنا، وينسفون شعبنا... ونحن نحارب كوب القهوة!!

نعم، نحارب كوب القهوة ولا نحاربهم، وننتصر على كوب القهوة ولا ننتصر عليهم، ونعري كوب القهوة ولا نعريهم، ونفلس شركة كوب القهوة ولا نفلسهم... ولا نتمكن من مس طرف ذيل دولتهم العنصرية البغيضة بأي ضُر.

نترك الفلسطينيين كباراً وصغاراً، شيباً وأطفالاً، نساءً ورجالاً في العراء، في هذا الشتاء القارس المطير، ولكن من يأبه؟

نحن مشغولون في «حربنا المقدسة» مع كوب القهوة. ونقول لضميرنا الميت... هزيمة القهوة أسهل من هزيمة إسرائيل، وهي هزيمة سوف ترضي غرورنا وتساعدنا على تجاوز ما يفعلونه في فلسطين وأهلها.

نترك أيتام فلسطين يئنون في الصقيع بلا مأوى ولا معيل، لا يجدون طعاماً ولا شراباً.. ولا دفئاً ولا أماناً، الغارات تمزّق سكون الليل فوق رؤوسهم وترعبهم، ونيرانها تملأ سماء النهار بلهيبها وتقتلهم، نستخرجهم من تحت الركام، ندفنهم.. ولكن لا مشكلة في ذلك لدينا!! المهم ألا ننشغل عن حربنا المقدسة... حرب كوب القهوة.

أيتام فلسطين لا يتعلمون، مدارسهم محطّمة مثل قلوبهم، مناهجهم ممزّقة مثل مشاعرهم، مدرّسوهم صاروا تحت التراب، وطمأنينتهم صارت أشلاءً مثل عروبتهم!!

يصرخون كل يوم وهم يدفنون قتلاهم... «وينكم يا عرب»؟؟.. ولكن لسان حالنا يقول... تحمّلوا واصبروا وأبشروا بقرب النصر المبين، تحمّلوا ودعونا نحن نكمل حربنا السهلة التي اخترناها... دعونا نواجه كوب القهوة، نحاربه ونخرب مخططاته... رجاءً يا إخوتنا اخفضوا صوت عويلكم فلدينا ما يكفينا من ضوضاء حربنا اللا-منتجة... لا تشتتوا تركيزنا، ها نحن نقترب من إعلان النصر على «الكوب».

لقد ضحكنا على أنفسنا ونحن نعلم، وأقنعناها أننا نواجه حرباً أخرى مقدسة مع كوب قهوة لنتفادى الحرب الحقيقية. بل حتى ما وفرناه من أموال القهوة لم نتبرّع به لهم للتكفير عن خذلاننا، بل بحثنا عن بديل ننفق عليه أموال ترفنا وضرورة ارتشاف أي قهوة بديلة!!

صرخنا كثيراً بملء أفواهنا حتى تشققت حناجرنا ونحن نعلن النفير إلى حرب القهوة... ولكننا نتجاهل طبعاً حرباً حقيقية تجري، ونتجه -ضاحكين على أنفسنا- إلى حرب لا ننازل فيها إسرائيل، لا ننازل فيها أحداً سوى كوب قهوة... تاركين إسرائيل تفحش فحشاً لا نظير له في إخواننا.

استمرأنا ترك ساحة الوغى الحقيقية خالية لنواجه كوب قهوة ممتلئاً في ساحات المقاهي، إسرائيل تقتل أبناء يعرب كل يوم بلا رحمة ولا إنسانية ولا رادع من دين أو أخلاق أو قانون دولي أو منظمات عالمية، تقتل أجسادهم وتغتال مشاعرهم وتمثل بعقولهم وتنتزع قلوبهم، ونحن -كما وصفنا مظفر النواب - لا نريد لصوت عروبتنا وهي تُغتصب أن يعلو... اسكتي يا عروبة ولا تفضحينا... استسلمي للعدو، ودعينا نتظاهر بأننا لا نعلم ما يفعلونه بك.

دعيهم -يا عروبة- يتبادلون التقارير العسكرية عن هزائمنا في الميدان، ودعينا نكتفي بتبادل مقاطع «تيك توك» التي نحكي فيها بكل زهو كاذب وفخر فارغ ملحمة النصر والكرامة والعزة العربية في مواجهة كوب القهوة !!

كم كانت شرسة معركتنا ونحن نتخلى عن كوب القهوة ونرهب ونبطش بمن لا يعجبه ميدان معركتنا الافتراضية.

وهذه هي النتيجة اليوم، تركناكم -أبناء فلسطين- عرايا ونحن بكامل أناقتنا نحارب كوب القهوة.

تركناكم جوعى ونحن المتخمون نحاول تجويع شركة كوب القهوة.

تركنا أمهات فلسطين ثكلى... وتركنا أطفالها تحت أنقاض منازلهم يختنقون تحت حطام مشاعرهم... بل وتركنا أبراج كرامتنا التي كانت في يوم ما شامخة تنهار فوق رؤوسهم... ثم دسنا أنقاض شجاعتنا ودفنا رجولتنا تحت ضريح عقلنا المأسوف عليه.

وها هم الآن، إخواننا في غزة يستعدون لشهر رمضان المبارك، بظروفهم هذه، يجتمعون على مائدة الإفطار مستذكرين بيوتاً هدمت وأرواحاً أُزهقت وأحبة غابوا عنهم، ونحن مازلنا في معركتنا مع كوب القهوة لا نسمع صراخهم ولا يهزنا أنينهم.

والله إن أعداءنا لن يجدوا خيراً منا في حروبهم ومواجهاتهم، ولسان حالهم يقول لنا ساخراً...

«أعداء القهوة أتسكت - فلسطين - المغتصبة»؟

... نعم تسكت... تسكت مادام بنو يعرب يخدعون أنفسهم ويختارون القهوة معركتهم تاركين الدماء الزكية تسيل على الأرض المقدسة، والوجه العربي يابس بلا ماء.

سُحقاً لكم... ولحربكم.

تعليقات

اكتب تعليقك