د.محمد الرميحي: دبي فكرة وليست مدينة فقط! ​

زاوية الكتاب

كتب د. محمد الرميحي 2549 مشاهدات 0


في كلّ مرة ترفع دبي السقف، وإذا كان الهدف هو الأفضل لخدمة الجمهور، فإن البحث عن الأفضل هو هاجس الإدارة في دبي، هذه المرة في لقاء قمة الحكومات التي حضرها ما يقرب من أربعة آلاف شخصية، من رؤساء الجمهوريات إلى رؤساء الحكومات إلى التنفيذيين في الميدان إلى المراقبين، وكالعادة التنظيم متميز، وما طرح في الأيام الثلاثة التي كان بعضها ممطراً إلى درجة أن مقدم "السي أن أن" قال مازحاً وهو يركب معنا العربة إلى مقر القمة "ارجعوا إلى ما أنفقت.. لقد جئت إلى الشمس ... فوجدت المطر.."! شارك في القمة 15 منظمة دولية و140 حكومة و700 شركة كبرى عالمية، مع تنظيم دقيق. 

 

الثيمة الرئيسية للقاء في هذه الدورة كانت "عالم المستقبل" ومحاسن التقنية الحديثة على المجتمعات ومخاطرها، وهو بحد ذاته مؤشر، لأن كثيراً من الدول ما زالت تخوض صراعات الماضي بكل ثقلها المبدد لحياة البشر وثروتهم، إلى درجة أن خطاب الافتتاح في اليوم الأول الذي قدمه محمد القرقاوي أشار إلى رقم رهيب هو أن تكلفة الصراعات في عام واحد بلغت 17 تريليون دولار، تكفي لإنقاذ تصف البشرية من الفقر، ومن الأمية ومن المرض! 

 

على الرغم من أن معظم الحديث في الجلسات كان عن تأثير الذكاء الاصطناعي على البشر والتنمية، وعلى أن العالم يشهد ثورة علمية رابعة وفجراً جديداً للحضارة الإنسانية، أساسها ذلك الذكاء الاصطناعي الذي يمكنه اليوم بعينة دم واحدة من إنسان، أن يكشف عدداً كبيراً من الأمراض، بما فيها الأمراض المستعصية، كما يمكن أن يلخص كتاباً من خمسين صفحة في خمس ثوان فقط، كما أنه يقدم حلولاً للطاقة البديلة، وقد تضاعفت قدرته ألف مرة خلال العام الماضي فقط، وهو يزداد تقدماً وتعقيداً، ويحل الكثير من القضايا في الإدارة العامة (الحكومية) وإدارة المؤسسات الاقتصادية والقطاع الخاص وأمن المجتمعات، لكنه من جهة أخرى يستطيع أن يفاقم شراسة الحروب وتتبع الأعداء. كما أن هذه الثورة تحمل أيضاً سلبيتها التي يمكن إجمالها بعبارة "اختطاف الرأي العام"، فالأخبار المزيفة أيضاً تتضاعف، فقط في العام الماضي تضاعف بث القنوات المزيفة إلى نصف مليون فيديو مزيف، لذلك فإن تضليل الرأي العام لم يكن بهذا المقدار من السهولة والتأثير في تاريخ البشرية كما هو اليوم.

 

يستطيع الذكاء الاصطناعي أن يزيف صوتك وصورتك، ويجمعك مع من لم تعرف في حياتك، وبالتالي هو يتضاعف بسرعة لا تجاريها المناعة الذاتية أو المعلوماتية، كما يمكنه أن يقلل الثقة بالحكومات، ويزعزع السمعة المالية للشركات، فهناك موجه عاكسة للذكاء الاصطناعي كما قال أحد المتحدثين "إنه مثل أي شيء آخر كالسيارة التي توصلنا إلى مقاصدنا، كما أنها في اليد الخطأ يمكن أن تقتل". 

 

إلا أن أصواتاً في القمة بدأت حذرة من المستقبل، على رأس الحذر ما أشار إليه الأمين العام لمنظمة الصحة العالمية من أن هناك جائحة عالمية لا بد قائمة، وعلى العالم أن يتعلم من الجائحة الأولى، ويبدو أنه لم يتعلم بعد!

 

من هنا كان النقاش في القمة في معضلة التقدم التقني والبيروقراطية، أو ما يسمى بالضوابط لاستخدام نتائج الذكاء الاصطناعي، فهما قطبان متضادان، إن تشددت في الضوابط قلّت المنفعة من الذكاء الاصطناعي، وإن تراخيت زاد احتمال الإساءة إلى الأشخاص والدول والمؤسسات المالية، كما أن هذا التقدم يهدّد ما سماه أحد الخبراء "الانقسام التقني"، أي أن هناك مجتمعات تتعامل مع التقنية، وأخرى غير قادرة، لأسباب كثيرة، على التعامل معها، فالصين في العام الماضي سجلت 29 ألف براءة اختراع في الذكاء الاصطناعي فقط، وفي الهند أكبر عدد من متخرّجي العلوم والتقنية والرياضيات، فالشرق يحمل بمجمله تحديات للمنظومة الغربية، إذ تبنّت تلك المجمعات التوجه إلى العلم الحديث القادر على نفع الإنسان، فاق في بعضه ما ظهر في الغرب، ومع استمرار السباق فإن التوازن سوف يميل بكفه إلى الشرق في عقود قليلة قادمة. 

 

الحلول التي أثيرت للتقليل من المشكلات في سباق الحكومات بين التقنية والتنظيم، هي اللجوء إلى تقنية الإدارة، والتوجه كما قال محمد بن راشد في لقاء سابق إلى "صفر بيروقراطية"، إلا أن ذلك يحتاج إلى عقول مدربة وقبلها إلى مصفوفة من القيم أساسها الثقة والشفافية، واعتبار إنجاز الدولة خدمة وطنية. 

 

أحد رؤساء الدول والمتحدث في هذه الدورة هو رئيس جمهورية قرغيزستان الذي كان شفافاً في عرض تجربة بلاده السياسية والاقتصادية، إذ قال إن "بلادنا بلاد جبلية، وفيها من الموارد الطبيعية الكثير، وشهدت أكثر من انقلاب عسكري، وراوحنا في نموذجنا السياسي بين جمهورية برلمانية وجمهورية رأسية، لكننا تعلمنا أن الدولة برأسين لا تعمل بل تعطل التنمية، كان لدينا مكتب رئيس وزراء وآخر لرئيس الجمهورية، وفي الغالب كانت السياسات تتضارب بين المكتبين، وأخيراً استقر الأمر على أن يكون رئيس الجمهورية هو رأس السطلة، وبذلك اختفت الصراعات، أي اعتماد "السلطة العمودية"، وكان أكبر التحديات هو محاربة الفساد، لقد كان في قرغيزستان ثروة من دون إدارة". ثم أردف: "لذلك أرسلنا نخبة من أبنائنا إلى دبي للتعلم من تجربتها الإدارية"!

 

أما رئيس جمهورية رواندا التي اكتوت بحرب أهلية ضروس، فقال: "المجتمعات لا تتعلم من التاريخ"، في إشارة إلى استمرار الصراعات الأهلية وحصدها الأنفس وتقويض الدول.

 

ما تقدم هو تلخيص مكثف وقد يكون مخلاً في سرد ما تم في هذه التظاهرة العالمية، وإن كان هناك ما يقترح، فهو صدور ملخص تنفيذي يحيط بالأفكار الأساسية التي نوقشت كي يستفيد منها الرأي العام، ومن جديد دبي فكرة في شكل مدينة!



تعليقات

اكتب تعليقك