د.محمد الرميحي: قراءة في مقابلة السيد بوتين

زاوية الكتاب

كتب د. محمد الرميحي 945 مشاهدات 0


عندما أعلن الصحافي الأميركي تاكر كرلسون نيته مقابلة السيد فلاديمير بوتين قبل أسابيع، قامت الدنيا الصحافية والإعلامية ضد الفكرة، تحت ذريعة أن المقابلة سوف تعطي سيد الكرملين فرصة لشرح وجهة نطره في الأزمة المستحكمة بين روسيا الاتحادية والغرب. الاعتراض لم يوقف المشروع، وعُرضت المقابلة كاملةً على «يوتيوب»، وظهرت مترجمةً، ولأكثر من ساعتين تحدث بوتين عن قصة روسيا والصراع القائم في العالم. أكد كرلسون رأيه في قمة الحكومات في دبي الأسبوع الماضي، حيث قال إنه أراد أن يعرض على الجمهور الأميركي وجهة النظر الأخرى، وأن المقابلة بتوصيفه كانت «حادة»!

نقل سابقاً عن السيد بوتين أن رياضة الجودو غيّرت حياته، وهي رياضة يُسقط اللاعب خصمه من خلال الإخلال بتوازنه، من غير الإضرار به، وقد وُصفت بأنها الرياضة التي تستخدم الطاقة العقلية والجسدية في تناغم! إلا أن قواعد الجودو لا تنطبق على قواعد «السياسة»، لذلك فإن الحجة المركزية لروسيا في إعلان «العملية العسكرية» على أوكرانيا، كانت لمنع حلف الناتو من التوسع، والنتيجة أنه توسّع أكثر، بعد أن كان قد وُصف من أهم المساهمين الأوروبيين بأنه «في حجرة الإنعاش»، كما قال الرئيس الفرنسي قبل شهور من الحرب!

تحدث بوتين طويلاً عن تاريخ روسيا، والتدرج في توسع الدولة الروسية، قبل أن يأتي على قضية ساخنة ومتحركة هي الحرب في أوكرانيا، لقد بدا متماسكاً ومتمكناً من موضوعاته التاريخية والسياسية، وموقف روسيا تجاه العلاقة مع الغرب، وسرد تطور كيانها السياسي أولاً كاتحاد سوفياتي اشتراكي النزعة، ومن ثم الاتحاد الروسي الليبرالي النزعة، كما وصف.

قد تنازع المشاهد في تكيف اللقاء بين رأيين متضاربين: الأول أن بوتين في حالة من الضيق، حيث لم يحقق أي هدف واضح من حملته على أوكرانيا، والثاني أن الرجل متأكد مما يفعل ويحقق انتصارات اقتصادية ومعنوية، إلا أن المؤكد أن الرجل ربح «المعركة الإعلامية» في هذا اللقاء، وأظهر أن الغرب، خصوصاً الولايات المتحدة، لا تريد منافساً لها في قيادة العالم، ولا حتى تريد شريكاً أصغر، إن صح التعبير، فهي لا تريد أن تسلم بهدم ما بنته لعقود!

الروس شعب صعب، وقد جربت قوى غربية هزيمته، هو يمرض ولا يموت. لقد شرح بوتين التطور الذي أوصل الحال إلى الحرب، وهو التوسع الذي قرره حلف شمال الأطلسي شرقاً، رغم أنها وعدت (أي القوى الغربية) أن لا تفعل، وبالتالي شعرت روسيا بأنها تحاط بقوى «معادية وقريبة من حدودها»، وهكذا تطور الأمر إلى الحرب، ثم توسع تلقائي لحلف الناتو!

ظهر بوتين في المقابلة قائداً سياسياً قوياً، وأن الاقتصاد الروسي الذي حاصرته القوى الغربية لم يتأثر كثيراً، بل استفاد جزئياً من ذلك الحصار، ودلّل على ذلك بالأرقام. في الوقت نفسه ظهر أنه رجل دولة، مسؤول عند الحديث عن القوة العسكرية، خصوصاً ما يتخوف منها العالم، وهي القوة النووية، التي كانت هاجس العالم عند اندلاع الصراع، مؤكداً أن تلك القوة الجبارة يمكن أن تنهي العالم الذي نعرف، وليس لرجل عاقل أن يستخدمها، وبالتالي فإنه أزاح في هذا اللقاء احتمال تطور الصراع في أوكرانيا إلى الأسوأ.

على صعيد المستقبل، عاد من جديد إلى ما سماه «اتفاقاً مبدئياً سلمياً» مع أوكرانيا تم في إسطنبول قبل أعوام، ووقّع عليه بالحروف الأولى المفاوض الأوكراني، إلا أن تدخل بورس جونسون، رئيس الوزراء البريطاني وقتها، أقنع الطرف الأوكراني بمواصلة الحرب، وبلغ ما دفعه الغرب، كما قال بوتين، نحو 70 مليار دولار مساعدات للمجهود الحربي الأوكراني، معظمها جاء من الولايات المتحدة وبعدها ألمانيا، وأيضاً مساهمات أوروبيين آخرين على مستوى أقل.

عقدة المشار كما أشار بوتين أن الحكم الأوكراني أصدر مرسوماً جمهورياً بتحريم المفاوضات مع روسيا، ومتى ما تغير ذلك المرسوم فإن كل شيء ممكن، أي يمكن أن تُجرى مفاوضات لحل النزاع، إلا أن الثقة معدومة كما قال، فقد قدمت روسيا كثيراً من المبادرات منذ سقوط الاتحاد السوفياتي، إلى درجة أنها اقترحت الانضمام لحلف الأطلسي! ولكن القيادات الغربية، خصوصاً الأميركية رفضت ذلك!

ما بدا من المقابلة أن السيد بوتين يعرف تماماً الأحمال الثقال على روسيا وربما العالم من جراء استمرار الحرب في أوكرانيا، وهو يبحث عن مخارج مشرفة، تحفظ لروسيا كرامتها، وأيضاً تنهي الحرب، لأن الروس كما قال «لا يستسلمون»، فهم مجازاً «يفضّلون الموت على الهزيمة»!

المقابلة في توقيتها تأتي في وقت مناسب، فالحملة الانتخابية في الولايات المتحدة تتصاعد، وأيضاً المعركة حامية، بل ومحيرة للعالم الخارجي، في أن قيادتَي الاحتمالين «الديمقراطي» و«الجمهوري» ربما خارجتان عن سياق «الثقة»، بمعنى القدرات الشخصية التي تأكل منها «السنون» من جهة، وعدم الخبرة الدولية من جهة أخرى، لذلك فإن العالم يقف «على رجليه» وربما يحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى أن يتعادل الميزان الدولي، وربما يراهن السيد بوتين على وصول دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، وقد كان سابقاً ميالاً إلى الحلول الوسطى، وأيضاً كارهاً لحلف الناتو!

لم يفت المقابلة الحديث عن الصين، وأنها الآن أكبر قوة اقتصادية في العالم، لا تستغني عنها لا أوروبا ولا أميركا، فهي تشكّل (مع الهند) نصف النمو العالمي، وأن التبادل التجاري بينها وبين روسيا الاتحادية قد قفز إلى أرقام فلكية، إما بالعملة الروسية أو العملة الصينية، وأن العالم يمكن أن يقلل اعتماده على الدولار.

لم يكن من المتوقع أن يتحدث السيد بوتين عن الشرق الأوسط الملتهب، ولا الصحافي أشار إلى ذلك الملف، ربما بسبب أن القوى الكبرى ترى في ملف الشرق الأوسط تفاصيل يمكن التعامل معها متى ما وصلت تلك القوى إلى تسوية يسميها بوتين «تعدد الأقطاب»، إلا أن ذلك يشير إلى أن التضحيات والدم المسفوك وإهدار الموارد في الشرق الأوسط هي مجرد «هامش» في صراع الدول العظمى، مما يؤكد أهمية توحيد المحور العربي، والسعي إلى أمن إقليمي يقي المنطقة شرور الاختلاف بين الدول العظمى، والأكثر شروراً الاتفاق فيما بينها.

آخر الكلام: نتيجة الصراع الأممي فإن تكلفة النزاعات في العالم اليوم تبلغ 17 تريليون دولار!!

تعليقات

اكتب تعليقك