في عالم التدريس .. كانت لنا أيام”7” بقلم أ. د محمد حسان الطيان

فن وثقافة

الآن 1441 مشاهدات 0


خطأٌ شائع، خيرٌ منهُ صوابٌ ضائع 

ولما كانت الطرافة بالطرافة تُـذكر فهذه قصة طريفة تعود إلى بداية تدريسي في قسم اللغة العربية بجامعة دمشق، عام 1993م (وكنت قد درست فيه من قبل مادة العروض عام 1980م) وقد نُدبت لتدريس مادة اللسانيات فأخذت نفسي وطلبتي بالتنبيه على بعض الأخطاء الشائعة عند الطلبة وغيرهم في اللغة والنحو والصرف، متَّخذًا من مقولة عدَّلتُ فيها قليلا تقول:"خطأٌ شائع، خيرٌ منه صوابٌ ضائع" شعارًا لهذا التصحيح.

والمقولة في أصل وضعها ضالَّة مضلَّة، إذ نصها الأصلي:"خطأٌ شائع خيرٌ من صوابٍ ضائع" ويقال أيضا على شاكلتها: "خطأ مشهور خيرٌ من صوابٍ مهجور" وكلتاهما لا تصح فلا الخطأ مقبول لشيوعه، ولا فيه خير لشهرته!

وقد نبَّهت الطلبة على فساد المقولة وتضليلها، إذ هي تحاول تسويغ ما يشيع على أقلام الكتَّاب من أخطاء بذريعة انتشارها وكثرة استعمالها، لذا فإني عدّلت عليها تعديلا يسيرًا يقلبها رأسًا على عَقِب، ويجعل معناها صحيحًا مصلحًا، بعد أن كان خطأً مفسدًا، وذلك بزيادة الهاء على حرف الجر (من) ليصبح (منه) فيصلح أمرها، ويُضبط وقعُها، إذ تغدو موزونة تكاد تُلحق بوزن المتدارَك: (خيرٌ منه صوابٌ ضائعْ) فعلن فعلن فعولن فعلن.

وقد تلَقَّف من هذه المقولة بعض الطلبة، وراحوا ينشرونها ويعملون بمقتضاها، وكان منهم طالبُ نجيب يُدعى: أيمن ذو الغنى –وهو ابن العلَّامة الفيزيائي الأستاذ أحمد ذو الغنى رحمه الله - وقد لا زمني ملازمة التلميذ لأستاذه، والمريد لشيخه، والصاحب لصاحبه، فلم يكنْ يدع مجلسا من مجالسي العلمية إلا كان أول المبادرين لحضوره.. في بيتي، وفي المسجد، وفي الجامعة، وفي المعهد، وقد استبدَّ به فيما بعد أمرُ التصحيح اللغوي، فأضحى من النوابغ فيه، وأنشأ عدَّة مقالات بعنوان (لغتنا الجميلة) كان يتتبع فيها بعض الأخطاء الشائعة ولا سيَّما تلك التي تشيع عند الخطباء في بعض الأحاديث الشريفة خصوصا، من مثل: 

- ما يروونه من حديث: "اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا سِنِينَ كَسِنِيِّ يُوسُفَ" وصوابه: "اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا سِنِينَ كسِنيْ يوسُفَ"بتسكين الياء لا بتشديدها.

- وحديث:"حَتَّى مَا تَجْعَلُ في فيّ امرأتِك" وصوابه:"حَتَّى مَا تَجْعَلُ في فيْ امرأتك" لأن في الثانية: اسم مجرور من الأسماء الخمسة بمعنى فم. 

- وحديث:"الحبَّةُ السوداءُ شِفاءٌ من كلِّ داءٍ إلا السَّامَّ" وصوابه:"الحبَّةُ السوداءُ شِفاءٌ من كلِّ داءٍ إلا السَّامَ" بلا تشديد، والسامُ: الموت من الجذر(س و م) وليست من السمّ.

- وحديث:"لا يَفْرُكْ مؤمنٌ مؤمنةً" وصوابه: "لا يَفْرَكْ مؤمنٌ مؤمنةً" لأنه من فعل فَرِكَ الرجلُ امرأتَه يَفْرَكُها: إذا أبغَضَها.

وهكذا صار الأستاذ أيمن وفقه الله مرجعًا من مراجع التصحيح اللغوي، حتى بتُّ أحسب له حسابًا حين أرسل مقالا لموقع الألوكة الذي كان يشرف عليه لغويا – وقد نشرت فيها ما يربو على الخمسين مقالا – لدقَّـة تتبُّـعه، وشدَّةِ حرصه على سلامة اللغة حرصًا قد يصل به أحيانا إلى التشدُّد وتحجير الواسع من أمر اللغة، وهنا فإني أخالفه، لأنه لا يجوز أن نخطِّئ ما كان له وجهٌ في اللغة ولو كان هذا الوجه ضعيفا أو مرجوحا، أو لغةً لقبيلة أو لهجةً لقوم..

ما علينا..

نأتي إلى بيتِ القصيد وهو أنه حضر مجلسًا من مجالس البيان التي كنت أستأنف عقدها كلما رجعت إلى الشام – وهي تعقد في الكويت منذ عام 2006م - فحدَّثني أن أخانا الأستاذ نضال دواد - وهو من طلابي النجباء أيضا - وهو تِـرْبُـهُ وابن دُفعته الجامعية، وله شعرٌ حسن ومشاركات لغوية وأدبية وعلمية، زاره في الرياض، فجرى الحديث بينهما وتشعَّب، وكان كلما ندَّت من نضال غلطةٌ لغوية في أثناء حديثه بادر أيمن إلى تصحيحها مذكِّرا بصواب استعمالها من مثل: حافَّة وصوابها حافَة بتخفيف الفاء، وكذا لثَّة صوابها لِـثَة بتخفيف الثاء لا بالتشديد، وحُنجرة صوابها حَنجرة بالفتح (كطَنجرة) إلى أن ضاق نضال به ذرعًا وضجر من كثرة تعقُّبِـه وتدقيقِـه وتَـتبُّعِـه، فصاح بعد إحدى تصحيحاته: (إي بَطِّيخ)! فردَّ أيمن للتوِّ بل (بِطِّيخ) بكسر الباء، عند ذلك وضع نضال يديه على رأسه وصاح بأعلى صوته: (والله لحتجيب لي الجَلطة يا أيمن)، فبادره أيمن بالقول: بل هي (الجُلْطة) بضم الجيم لا بفتحها!

فضحكت حتى استغرقت من الضحك، ثم قلت لأيمن وأنا أمسح دموع ضحكي: كل الذي ذكرته مما أنبِّه عليه عادةً في دروسي ومحاضراتي، إلا الجُلْطة فما وقفتُ عليها، فقال لي: أجل هي الجُلْطة يا أستاذنا وأرجو أن تراجعها، فراجعتُـها فوجدتُ غير واحدٍ من أرباب التصحيح اللغوي يذكرها ويصححها فهي الجُلْطة بالضم لا بالفتح [انظر دليل الأخطاء الشائعة للأستاذين مروان البواب وإسماعيل مروة، ص 26.] دفعَ الله عنا وعنكم كلَّ بلاء.  

 الكويت  27 ربيع الآخر 1442ه

  12/12/2020

تعليقات

اكتب تعليقك