في عالم التدريس .. كانت لنا أيام “8” بقلم أ. د محمد حسان الطيان

فن وثقافة

الآن 1286 مشاهدات 0


قصتي مع العروض

 

كانت أول مادة تخصصية درَّستها في حياتي الأكاديمية الجامعية مادة العروض، وأنا بطبعي أميل إليها، إذ إني أمتلك ولله الحمد والمنة أذنًـا موسيقية أو قل إن شئت إيقاعية، تحس بإيقاع الكلمة وتستشعر موسيقاها، ولستُ أبالغ إذا قلت إنني لا أرضى غالبا عما أكتب حتى أشعر بالإيقاع الموسيقي لما أكتب، فإذا فقدت هذا الإيقاع شطبتُ ما كتبت، وقد قال لي مرةً أحد الشناقطة، وهو شاعر وأديب وراوية: أنت تكتب بلغةٍ شعرية راقصة.

وكان أول من كشف موهبتي العروضية الأستاذ محمد هندية أستاذ العربية في الصف العاشر، بثانوية العناية عام 1971م، إذ منحني مرة خمس درجات إضافية على براعتي العروضية، ولما كانت درجتي في سائر فروع العربية كاملة وجد المدرس نفسه في حيرة كيف يعطيني حقي وقد تجاوزت القدر المسموح به! وما زال بعض زملائي يذكرني بهذا حتى أمدٍ قريب (إلا الإنشاء فإن درجته ما كانت تزيد على تسع عشرة درجة، وكلما راجعت في ذلك، وألححتُ على حقِّي في الدرجة المفقودة قيل لي: إذا أخذت العشرين فماذا تبقي للرافعي وطه حسين والطنطاوي.. قاتلَ اللهُ اللَّجاجة!).

ثم إني في الصف الحادي عشر صحَّحتُ لأستاذ العربية سيمون حمصي تقطيعه لبيتَي شوقي:

بيروتُ يا راحَ النزيلِ وأنسَهُ   ***يمضي الزمانُ عليَّ لا أسْلوكِ

لَـكِ في ربا النِّيل المباركِ جيرةٌ   ***لو يقدرونَ بدمعِهم غَسلوكِ

فلم يجرؤ بعدها على مخالفتي في تقطيع بيت، ثم تبدَّت موهبتي العروضية على خير وجه مع أستاذنا العلامة أحمد راتب النفاخ، إذ كان يدرِّسنا العروض، فإذا فرَغ من عرضه لبحرٍ من البحور أملى علينا أبياتًـا من الشعر، وأردفها بالقول: معَكم ثلاثُ دقائق لتقطيعها، ولا أذكر أني أمهلتُه مرةً، أو أخذتُ شيئا من دقائقه الممنوحة، بل كنت أعاجلُـه برفع يدي إيذانًـا بإنجاز ما طلب، وما كان أعظمَ ما أفجأُهُ به حين يراني قد قطَّعت ما أملاه علينا مع أثناء إملائه، ولكنَّه لم يكن يزيدُ على منحي كلمة: "جيد" يقولها بصوته الأجش، ونبرته النفاخية ثم يمضي لا يلوي على شيء، حتى إذا ما جاء دور المنسرح، أعني بحر المنسرِح، رأيتُني أتقلَّب بين تفعيلاته تقلَّبَ ذلك الشاعرِ الذي يخرج من عند صديقهِ زيادٍ ثملًا:

أخرجُ مِنْ عندِ زيادٍ كالخَـرِفْ ... تخطُّ رجلايَ بخطٍّمُـخْـتَـلِـفْ

كأنَّـما تُكَـتَّـبانِ لامَ الِفْ

والتفتَ النفاخُ نحوي فلم يرَ يدًا قد ارتفعتْ.. ولا عينًا قد برَّقتْ.. ولا بسمةً قد أشرقَتْ.. وبرغم ذلك كله أسرع نحوي ليرى ما صنعتْ، فوقعت عينُـه على خربشاتي وتعثري وتداخل تقطيعاتي، وما خطّتْه يدي بخطٍّ مختلِف، وكأني به قد قرَّتْ عينه بما رأى، إذ ما زاد على أن قال: "وقعتَ على أمِّ رأسك" وهكذا وجدتُـني أتحسَّسُ رأسي بل أتحسَّسُ أمَّه – أعني أمَّ رأسي - وأنا أستمع إليه يوجِّـه الكلام إلى الطلبة جميعا معلنًـا أن هذا البحر هو الأصعب بين بحور الشعر فلا جرم أنه قد يعتاص على البعض، وكنت أنا المعني بهؤلاء البعض! فقلت في نفسي: لا بأسَ وصلني حقِّي وأنصفني شيخي، رحمه الله. 

وتمضي الأيام سريعة لأحلَّ محلَّ أستاذي في تدريس مادة العروض في قسم اللغة العربية بعد عامٍ واحدٍ من إنهائي دراسةَ دبلوم الدراسات العليا في العام الدراسي 1980/1981م، وكان بعض زملائي ما يزال يدرُسُ في القسم نفسه، وذلك بتكليف من رئيس القسم آنذاك أستاذي الدكتور محمود ربداوي أطال الله في النعمة بقاءه، وكان أول شيء فعلتُـه أن زرتُ أستاذي النفاخ طالبًا توجيهي فيما أنا مقبلٌ عليه، حاملًا معي دفتري الذي مُلِئ من علمه وخيراته، بما أملاه علينا في تلك المادة المحبَّـبَة إلى نفسي، فكان أن أثنى عليَّ، وأسمعني ما قرَّتْ به أذني، ومضيت لا ألوي على شيء وقد بارك النفاخ عزمي، غير أن الأمر سرعان ما انقلب إلى ضدِّ ما أسمع أنا، إذ أوغرَ الواشون صدره، وملؤوا قلبَه غيظا وحنقا عليَّ، وكان رجلا أُذُنًـا، فما لبث أن انقلب عليَّ، أو هكذا بلغني، فقلتُ لصاحب لي يرتاد مجلسه، وهو الأستاذ محمد قباوة، ذكره الله بخير: بلِّغ عني أستاذي هذه الجملة:"لأنْ أكونَ تلميذا صغيرًا في رحابِـك خيرٌ لي من أن أكونَ أستاذًا كبيرًا في جامعة دمشق" وهكذا كان، وأحسستُ أن الشيخ قد رضي، أو هكذا خُيَّلَ إلي، وأكَّدَ لي هذه الظنون أحد زملائي الطيبين المحبين واسمه عبد الكريم حسين – وهو اليوم أستاذ كبير في قسم اللغة العربية بجامعة دمشق – إذ قال لي بالحرف الواحد "إنه جرى ذكري عند أستاذي النفاخ وقيامي على تدريس العروض فما زاد على أن قال: هو خير من يقوم لها" فحمدت لأخي د. عبد الكريم ما نقله عن شيخنا وحمدت لشيخنا رضاه عني، بعد أن كادتْ شياطينُ الإنس تَـنْـزَغ بيني وبينه.

على أنها – أعني شياطين الإنس – لم تمهلْني طويلا، بل كانت تتربَّصُ بي الدوائر، حتى إذا ما حانت لها الفرصة نفثَت سمومها، ونَـزَغت نزغتَها، وأبلَتْ بلاءَها، نعوذ بالله من بلائِها وبلوائِها.

دعْ ذا وعُدْ معي إلى أول محاضرة لي في الجامعة، فقد تجهَّزت لها شكلًا ومضمونًـا، مظهرًا ومخبرًا، مبنًى ومعنًى، أما الشِّقُّ الثاني أعني المضمون والمخبر والمعنى، فإني لم أدع مرجعًا من مراجع العروض إلا رجعت إليه، وكان في مقدمتها ذلك الدفتر الذي نقلتُه عن شيخي النفاخ رحمه الله وأجزل مثوبته وجزاه عني وعن العربية وأهلها خير الجزاء وأوفاه.

وأما الشكلُ والمظهرُ والمبنى فإني لبستُ الخزانةَ كلَّها، أعني أني تخيَّرت من ثيابي أحسنَها، ومن ربطات العنق أجملَها، ومن الأحذية آنقَها وألمعَها، ولكن ذلك كلَّه لم يُـغْنِ عني شيئًا، إذ ظنَّـني الطلاب طالبا، ورأيتُـني أدافعهم ويدافعونني، (وأدفشهم ويدفشونني) إلى أن بلَغتُ مِـنصَّة التدريس والمحاضرة، فوقفت كالأسدِ الهصور، أو قل تصنَّعتُ ذلك، ورفعت عقيرتي بالفصاحة والبيان، فما أظْـهَـرَني عليهم والله إلا بياني وفصاحتي وصوتي الذي ملأ أرجاء القاعة – ولله الحمد والمنة على ما أنعم – إذ أنصَتَ الجميع وأصاخوا واستمعوا وأُخِذوا، فلا تكاد تسمع إلا همسا.

أما طريقتي في تدريس العروض فأدعها لحلقة قادمة.   

 الكويت  30 ربيع الآخر 1442ه

  15/12/2020   

تعليقات

اكتب تعليقك