في عالم التدريس .. كانت لنا أيام “4” بقلم أ.د محمد حسان الطيان

فن وثقافة

الآن 1397 مشاهدات 0


درس الإنشاء والتعبير

- 4 -

ومما كنت أُعْنَـى به في عالَـم التدريس النشاط الداخلي والخارجي الذي يمكِّن حبَّ العربية في قلب الطالب، ويُـخرجه من إِسَارِ الرتابة والعادة والملل، إلى رحاب الاطِّلاع والفهم والعمل. ويطلق العِنان له ولفكره ولقلمه ولسانه، يجوب في أنحاء الكون والحياة والمشاركة الفعَّالة في القراءة والبحث.. والتنقير والتنقيب.. والكتابة والتدريس..

ولعلَّ أول نشاطٍ بدأتُ به عامي التدريسي الأول فيما أذكر، تأسيس مكتبة خاصةٍ بالطلبة يجمعونها بأنفسهم، ولا تكلِّفهم سوى أن يُسهم كل منهم بقصة أو أكثر يودعها هذي المكتبة، فإن لم يمتلك قصة، فإنه يسهم بمبلغ محدودٍ ليشترى به بعض القصص أو المسرحيات، وقد استجاب الطلبة لمبادرتي، وسارع بعضهم بجلب القصص، كما سارع آخرون بدفع مبلغ يسدُّ مسدَّ قصة أو قصتين، وكان أول ما اقتنيت لهم ملحمة عمر لعلي أحمد باكثير، وهي مسرحية تتألف من ثمانية عشر جزءًا، ما قرأها أحدٌ إلا أعجب بها، واستغرقته قراءتها، بما فيها من أحداث جسام، ومواقف حازمة، وتاريخ مجيد، وعظات باهرة، وأسلوب أدبي يشد القارئ شدًّا، ويملأ النفس بهجةً وأنسًا.

وقد توخَّيتُ من تأسيس هذي المكتبة أن أغريَ الطلبة بالقراءة، فالقراءة أولا، ولأمرٍ ما كان أول فعل في كتاب الله (اقْـرأْ): 

﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾

فالقراءة طريق الإيمان والكتابة والعلم..

ومن ثَمَّ كان أول موضوع إنشائي كلَّفتهم كتابته: لخِّص قصةُ أو مسرحيةُ قرأتها، ذلك أن الطالب لا يمكنه أن يكتب إلا إذا قرأ، فالكتابة نتاج من نتاجات القراءة، ومن لا يقرأْ لا يكتبْ، وأنَّى له أن يكتب؟! وفاقد الشيء لا يعطيه، وكل إناءٍ بالذي فيه ينضح، فلا بدَّ أولا من مَلْء الإناء، ليبدأ النضح بعده.. وأول الغيث قطرٌ ثم ينهمر.

وأنا أزعم أن كل من جُرَّ أو استُجِرَّ إلى هذا العالم عالم القراءة فولجه سيجد طريقه عاجلا أو آجلا إلى عالم الكتابة، وكل من عَـزَفَ عن القراءة، وتنكَّبَ سبيلها استعصى عليه القلم، وجافاه التعبير، وصار إلى ما قال الشاعر:

فدعْ عنكَ الكتابةَ لستَ منها ... ولو لطّختَ ثوبكَ بالـمِـدادِ

وعدوى القراءة سَرعانَ ما تسري بين صفوف الطلبة، إمَّا وجدَتْ من يحرِّكها ويلقي في بركتها الساكنة بالحجر تلوَ الحجر، وهنا يبدو أثر المدرس الذي يُـوري بين الطلبة زَنْـدَ التنافس والتباري والتسارع إلى إنجاز أكثر عدد ممكن من القصص قراءةً وتلخيصًا، وذلك بالمكافأة المادية أو المعنوية على كل قصةٍ تُـقرأ.. وتلخيصٍ لها يُكتب، وكثيرًا ما كانت مكافآتي درجاتٍ تُـزادُ لكلِّ مستجيبٍ ومحسن، وأخرى تنقص لكل مقصِّرٍ ومهمل. 

وكنت أحاول التفنُّن في طرح موضوعات التعبير، أتخيَّـر منها ما يناسب الطلبة ويداعب خيالهم، ويحقِّق آمالهم وطموحاتهم، ولو كانت لعبًا أو لهوًا أو نزهةً أو مرحًا أو فرحًا.. كما كنت أتحيَّن الفرص والمناسبات لأطرح موضوعات يحيا فيها الطلبة، أو تحيا فيهم، تسكنهم أو يسكنونها، تمرُّ عليهم أو يمرون عليها..

من ذلك أني وقد بدَتْ بوادر فصل الربيع.. تحلُّ علينا شيئا فشيئا.. بتفتح الأزهار واعتدال الجو وعودة الطيور المهاجرة، تتخلل هذه البوادر بقايا رياح الشتاء، وبعض أمطاره وبرقه ورعده.. 

فيومٌ سحابٌ ويومٌ مطر.. 

ويومٌ أمانٌ ويومٌ خَطَر.. 

ويوم نُساءُ ويوم نُسَرُّ..

فبينا كنا نرقُبُ ذلك، ونحار فيما نلبَس.. عنَّ لي أن أهتبل تلك الفرصة فكلَّفت الطلاب بكتابة موضوع هذا نصه فيما أذكر:

قال البحتري:

أَتاكَ الرَبيعُ الطَلقُ يَختالُ ضاحِكاً ... مِنَ الحُسنِ حَتّى كادَ أَن يَتَكَلَّما

أجل فقد تكلَّم الربيع فأجاد.. وغنى فأطرب.. تكلم بلسان أزاهيره، وغنى بزقزقة عصافيره.. وتصدّى له الشتاء بما تبقى فيه من أمطار ورياح ولكن دون جدوى!

تخيَّل حوارًا طريفًا جرى بين الفصلين، مبرزًا مزايا كلٍّ منهما، لتصلَ إلى تحديد الفصل المفضِّل لديك.

وأطلق الطلاب العِنان لأقلامهم، كلٌّ يتخيل حوارًا، وكلٌّ يختلق كلامًا، يجوب فيه في دنيا الربيع ودنيا الشتاء، وما لكلٍّ منهما من مزايا، وما لكلٍّ منهما من رزايا – إن صحَّ التعبير - ليخلص في النهاية إلى بيان الفصل المفضَّل لديه. إنها فرصة للتعبير.. أحسن فيها الطلبة ما شاء الله لهم أن يُحسنوا، وكنت راضيا كلَّ الرضا عن كثيرٍ مما كُتِب. 

ومن ذلك أني في نهاية العام كلَّفتهم أن يكتبوا في الموضوع الآتي:

وللطلاب آراؤهم... اكتب موضوعا عن مدرِّس العربية، والمنهاج المقرر فيها، ما له وما عليه، ما أعجبك فيه وما لم يعجبك، مبينًا مقترحاتك للوصول إلى درس أفضل وتعليم أمثل.

وكي يتمكَّن الطلاب من التعبير بحريةٍ وأَرْيَـحِـيَّـةٍ، طلبت إليهم أن يكتبوه على أوراق مفردة، وألا يكتبوا أسماءهم على تلك الأوراق، فهو تعبير حرٌّ، يعبِّر فيه الطالب عما يشعر دون أي رقيبٍ يحصي عليه، أو أي قيدٍ يقيِّده.

وجاءت النتيجة عظيمة كريمة، إذ قرأتُ في موضوعات الطلبة تعبيراتٍ قلَّ أن يجود بها قلمُ طالب، صحيحٌ أن قسما كبيرا منها حمل لي من الثناء والإطراء ما أشعرني بالسعادة والفرح والبهجة، وأرضى غروري – وأعوذ بالله من الغرور - في تلك المرحلة المبكرة من عمر تجربتي التدريسية، لكن الأهمَّ من كلِّ ذلك أن كثيرا من الطلبة أطلقوا العِنان لأقلامهم، واستطاعوا أن يعبِّروا عن أفكارهم ومشاعرهم بأساليب راقية، وجمل مرضية، وإنشاء واعد.

 الكويت  21 ربيع الآخر 1442ه

  6/12/2020

تعليقات

اكتب تعليقك