في عالم التدريس.. كانت لنا أيام (3) بقلم أ.د محمد حسان الطيان
فن وثقافةالآن مايو 27, 2023, 7:32 م 1380 مشاهدات 1
في عالَمِ التدريس كانت لنا أيام .. وساعات.. ولحظات .. لا تنسى! عشت فيها أجمل أيام عمري، ذلك أني كنت أعشق التدريس منذ نعومة أظفاري، أذكر أني كنت أكتب على لوح من التوتياء، كان والدي رحمه الله جعله حاجزا بيننا وبين جيراننا، فكنتُ أستخدم الطبشور وأخط عليه بعض ما يخطر لي – برغم صعوبة الكتابة عليه وانزلاق الطبشور وعدم وضوح بعض الكلمات، إلا أنني كنت أمارس هوايتي متحدِّيًا كل الصعوبات ومتجاوزًا كل العثرات!
إلى أن سنَّى الله لي أن أعتلي منابرَ التدريس، فكنتُ – بفضل الله وتوفيقه - كما قال الحُبَابُ بنُ المنذِر: جُذَيْلَها المحَكَّكَ وعُذَيْقَها الْمُرَجَّبَ، أو ابنَ بَـجْدَتِـها كما يقال.. إذ لم أدعْ سبيلا يمكن أن يوصلني إلى قلوب طلبتي إلا سلكتُه، موقنًا أن المحبة هي العلاقة الأولى التي يبنى عليها أمر التدريس، فإذا أحب الطالب أستاذه أصغى إليه بأذنه وقلبه، وانتفع بعلمه ومعرفته، وإذا لم يحبَّه انصرف عنه بقلبه وعقله، وإن كان يتابعه بجسمه وسمعه، وما أحوج الطالب إلى الحضور بجميع جوارحه، وما أحوج المعلم إلى الجذب والتشويق وإثارة الانتباه بكل ما أوتي من مهارة وحذق وموهبة وإحسان.
وقِـوامُ المحبة أمور عدَّة أخذت بها نفسي مذ كنت مدرسًا في المدارس إلى أن تـبَـوَّأت أعلى رُتَب التدريس الجامعي والدراسات العليا والإشراف على رسائل الماجشتر والدكتوراه، وأنا أنصح بها كلَّ مدرس في كل مرحلة من مراحل التدريس وقد أفردتُ لها بحثًا بعنوان:
(سبل الارتقاء بتعليم العربية) وعرضتُها في دورات وندوات ومؤتمرات وورشات عمل، ولعل من أهمها:
أ - لين الكلمة وطلاقة الوجه
ب- لين الجانب والتواضع والإنسانية
ج – التشجيع
د - براعة الاستهلال
هـ - الإتحاف والإطراف والتفنن في العطاء
و - الالتزام بالوقت
ز - الشكل والهندام
ح- المشاركة والتفاعل
وقد أعانني الله سبحانه على النجاح في التدريس، بما حباني من فصاحة اللسان.. وقوة الجَنان..ونصاعة المنطق.. وحسن الخط.. وعذوبة الصوت.. وحضور البديهة.. وسرعة النكتة... وقوة الذاكرة.. وحسن التأتِّـي.. أقول هذا متحدثا بنعم الله عليَّ ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾ سائلا المولى أن يديمها ويحفظها ويلهمني الشكر عليها ما حييت.
ربّ وفّقني فلا أعدلَ عن … سننِ الساعينَ في خيرِسَنَنْ
ولا ريب عندي أن التوفيق والسداد إنما هو من رب العباد، ومهما بذل المرء من ذات نفسه ومن تحصيله وتدبيره، لا يمكن أن يصل إلى شيء من التوفيق إلا بمعونة الله وتسديده لا جَرَم.
إِذا لم يكُنْ عَوْنٌ مِنَ الله للفَتى ... فَأَكثُر مَا يَجني عليهِ اجتِهادُهُ
والحقُّ أني لم أكنْ لأكتفي بمؤهلاتي وقدراتي.. بل كنتُ – وما زلتُ - أتهيَّأ وأحتشدُ لكل درسٍ أو محاضرة أُقْبِل عليها، فأعكف على الدرس أعِدُّه وأحضِّره بكل ما أملك من مراجع ومصادر ومسموعٍومنقولٍ ومرويٍّ ومعقول.. متخيَّرا أحسن الشواهد، وأعذب الأشعار، وأطرف القصص، وأندر الأخبار..
فمن ذلك مثلا أنني في بحث الأسماء الخمسة أسوق للطلبة، بعد شرحي للدرس، قصة الجارية التي رواها صاحب المستطرف:
"حُكي عن أبي عبد الله النميري أنه قال: كنت يوما مع المأمون وكان بالكوفة، فركب للصيد ومعه سرية من العسكر، فبينما هو سائر إذ لاحت له طريدة، فأطلق عِنان جواده وكان على سابقٍ من الخيل، فأشرف على نهر ماء من الفرات، فإذا هو بجارية عربية خماسية القدِّ، قاعدة النهد، كأنها القمر ليلة تمامه، وبيدها قربة قد ملأتها وحملتها على كتفها، وصعدت من حافة النهر، فانحلَّ وكاؤُها (أي الحبل الذي يربط فمها) فصاحت برفيع صوتها: يا أبتِ أدركْ فاها، قد غلبني فوها، لا طاقةَ لي بفيها."
وأسألهم ما الذي دعا الجارية المسكينة لقول ما قالت، أعني: فاها.. وفوها.. وفيها؟ فيتسابق الطلبة لتعليل أنماط قولها وإعراب كل منها. فالأولى منصوبة بالألف لأنها مفعول به، والثانية مرفوعة بالواو لأنها فاعل، والثالثة مجرورة بالياء لأنها اسم مجرور بحرف الجر.
كما أسوق لهم خبر ذاك الذي طرق باب الخليل بن أحمد فلما فتح له الغلام ارتبك وهو يسأله عن أبيه فقال: أبوك، أبيك، أباك، هنا؟ فقال له الغلام: لا، لو، لي.
ومن نوادر ما حدث أن طالبا لا زلتُ أذكر اسمه (عماد الدين الحكيم) من طلبة المحسنية - في السنة الثانية من تدريسي بها - سألني ذاتَ درسٍ: أليست هذه الأسماء ستة؟ فقلت بلى، وسادسها هنٌ، ولكن النقص في الاسم السادس أحسن، كما يقول ابن مالك في الألفية:
أبٌ أخٌ حمٌ كذاك وهنُ ... والنّقصُ في هذا الأخير أحسنُ
فقال: فما معنى هنٌ؟ قلت أترك لك المجال لتبحث في المعجمات عن المعنى، فأردف قائلا: أهو منظور أم مأكول؟ فقلت دعْ عنك هذا فلولا أنك عظيمُ الصف لجعلتك نكالا!
هذا وقد عدَّلتَ بيت الألفية ليسَع الأسماء الخمسة كاملةً، فكنت أقول للطلبة:
أبٌ أخٌ حمٌ كذاك ذو وفو ... خمسةُ أسماءٍ لهنَّ فاعرفوا
ويحفظه الطلبة ويؤدُّونه كما ينبغي له، بيدَ أن أحد الطلبة الظرفاء التعساء! فَجَأَني يوما في الامتحان بإدراج كلمة (كذاك) مع الأسماء الخمسة!! ولم تُجْدِ معه كل أيماني وتأكيداتي بأن هذه الكلمة مجرد وصلةٍ للشطر كي يستقيم الوزن. ورأيتُـني بعد ذلك أنبِّـه على هذا، وأبالغ في بيان هذه الوصلة التي تشبه وصلة الكهرباء ووصلة مواسير المياه وغيرها من الوصلات الغنائية...
ولما كان التعديل بالتعديل يُـذكَر..! فيحسن أن أسوق هذه الطرفة عن الألفية معتذرا عما فيها من سوء أدب:
يحكى أن أحد طلبة الأزهر، كان مكلَّفًا تحفيظ الألفية لطالبٍ أعمى، وكان يضيق ذرعًا بشيخه المدعو بـــ (الخراشي)، لما يلقاه منه من فظاظةٍ وسوء معاملة، فلما وصل إلى مبحث النداء وترخيمه (والترخيم: حذف آخر المنادى مثل: أفاطمُ في فاطمة، وبثينُ في بثينة) الذي قال فيه ابن مالك::
تَرْخِيماً احذِفْ آخِرَ المـُــنَادَى*** كَيَا سُعَا فِيمَنْ دَعَا سُعَادا
غيَّره، بل حرَّفه تحريفا مَشِينًا سيئًا، ولقَّن الطالب الأعمى البيت على النحو الآتي:
ترخيمًا احذفْ آخرَ الحواشي ***كيا (خرا) لمن دعا خراشِي
فلما سمعه الشيخ من الطالب الأعمى ثارت ثائرته، وأفضى الأمر إلى طرد ذلك الطالب الملقِّن المحرِّف، لخيانته الأمانة العلمية، وتعدِّي الحدود في الإساءة لشيخه وقلة الأدب معه.
الكويت 20 ربيع الآخر 1442ه
5/12/2020
( محمد عصام الشربجي أبو عبده ) يونيو 4, 2023, 10:46 ص
جزاكم الله عنا كل خير ويسعد صباحكم بأنوار النبى صلى الله عليه وسلم ورحم الله والديك. من فضل الله علي إنه نفس اسلوبك فى التدريس أتبعه في تدريس التجويد في جامع العثمان لكبار السن. منهم المدير و منهم الدكتور..... الخ.وكذلك في جامع الباشوره عندنافي الشاغور.ارجوا الله أن خالصة لوجه الكريم.وفي الختام ادع الله أن يهئ لكم كل خير أنتم وجميع المسلمينإنه سميع مجيب سلامنا للجميع.