صقر الشبيب.. رأى بعيون الشعر مالم يرَ المبصرون

فن وثقافة

577 مشاهدات 0


بقلم - رجا القحطاني:

هو صقر بن سالم الشبيب الشمري
وِلد في مدينة الكويت في الحي الشرقي  سنة 1894.
وكان يؤلف الشعر في كافة المواضيع وبشكل خاص الاجتماعية والذاتية، وقد لُقّب بمعرّي الكويت.
يُعدّ الشبيب من أشهر شعراء الفصحى الكويتين في النصف الأول من القرن العشرين ولا يفوقه شهرة سوى شاعر الكويت فهد العسكر. ويمتاز  شعره بجزالة العبارة وانسيابية الأسلوب وجلاء الصورة.
وكان يحفظ الكثير من قصائد الشعراء العرب القدماء ويفضّل ابن الرومي والمعري.
عمِل شاعرنا لمدة عام في إدارة المعارف إذ خُصص له مكان يشرح فيه للناشئين القواعد النحوية، ولا يضيق ذرعاً بمن يسأله عن الشعر العربي.

فقد صقر الشبيب بصره قبل أن يتجاوز التاسعة من العمر ، ولكن كان يجد من يقرأ له الكتب الأدبية ودواوين الشعر القديمة والحديثة وخاصة صديقه أحمد البشر الرومي .
وذاق صقر مرارة فقد الأبوين  وقد كابد قسوة اليتم وفقد البصر وعبر عن ذلك:
أعمى مقل جردته يد القضا
فإذا شككت فسلْ بذلك ملبسي.


وقد جمع أحمد البشر الرومي قصائده في ديوان سماه ديوان صقر الشبيب وحظيت أشعاره باهتمام العديد من الباحثين والأكاديميين.
وارتبط الشاعر بصداقة وطيدة مع الشيخ الراحل عبدالله السالم الصباح ،والمؤرخ عبدالعزيز الرشيد، وأحمد المشاري.
وفي أواخر أيامه لزم بيته ومنعته الشيخوخه والخوف من اكتظاظ الشوارع بالمركبات من زيارة الشيخ، فجاءت أبياته بما يشبه الاعتذار:
لئن لم أزر في كل يومٍ محلّ من
عليَّ له فضلٌ يجلّ عن الشكرِ
فليس لصقرٍ أن  يبارح وكره
إذا سدت العينين منه يد الضرِّ
فما طار مكفوف الصقور وسالمتْ
جناحيه قبل اليوم عادية الكسرِ


وكان صقر الشبيب مستنير الفكر ويدعو من خلال قصائده إلى الاعتدال  والبعد عن التطرف الديني فلم يسلم من المتشددين إذ اتهموه بالكفر شأنه شأن فهد العسكر، قال مستاءً ومحتجا:
فياليت شعري مايريدون بالذي
يذيعون من كفري المزوَّر أو لبسي
فياقوم ماهذا التغطرس والجفا
ودينكمُ ديني وجنسكمُ جنسي


وكان صقر الشبيب يميل إلى العزلة بسبب فقدان البصر وخيبة ظنه في الآخرين:
عرتني وحشةٌ من كل حرٍّ
وعبدٍ  بالبرية  فانفردتُ
فخالط ْمن تشاء ولاتلمني
فإني عن ملامتك ابتعدتُ
فإن تسعد بمجتمع البرايا
فإني بانفرادي فد سعدتُ


وكان عزيز النفس ، لا يقبل أن يُنظر إليه بعين العطف كونه كفيف البصر، كما أنه يرفض أن يمدح بالشعر إلا من كان جديراً بالمدح والثناء :
أخاف إذا بقيتُ تذل نفسي
على طمعٍ لذي مالٍ كثيرِ
فتمنحه مدائحها اللواتي
تعزّ على الفرزدق أو جريرِ
ولكني كما سُمّيتُ صقراً
وهل أبصرتَ ذلًّا في الصقورِ


ويعبر شاعرنا صقر الشبيب عن قيمة الإباء الذي بانعدامه تنعدم كل قيمة في الحياة  ويعْلَق المرء في شباك الفراغ الروحي:
لا خير في رزقٍ تصادف دونه
مالا تطيق من الأذى وتُساءُ
حتى الحياة إذا خلت من عزةٍ
داءٌ لمثلك والحِمامُ دواءُ
ما الحر إلا من تأبّتْ نفسه
سوم الهوان فهل لديك إباءُ


وهنا أبيات من  قصيدة بائية  لصقر الشبيب اجتهدتُ في تحليل صورها وما قد تومئ إليه معانيها.

ولو حل في البحر المحيط أقلُّ ما
يعانيه قلبي ماجرى فيه مركبُ

يرى الشاعر الذي يعبر عن معاناته أن أهون مافيها لو سكن البحر لغطى محيطه الشاسع ، أو لأثار في البحر الأمواج العاتية ، فلا يستطيع أي مركب أن يسير فيه ثابتاً، وفي هذه الجملة مبالغة واضحة ، لكنها وليدة لحظة استولى فيها اليأس على قلب الشاعر.

وتصبح إن أصبحتُ نشوى محاجري
وليس  لها إلا من  السهد مشربُ

هو يربط بين انتشاء محاجر عينيه من طول السهد "السهر المؤرق"  ونشوة محتسي الخمر من احتسائها، وقد يبدو الربط غريبا في هذه الجملة الشعرية ،لكنها لقطة وصفية طريفة ،وخاصة قوله" وليس لها إلا من السهد مشرب" فكأن محاجره انتشت بشرب السهد.

ظمأت وحاولت الوررد فلم أجدْ
من الوِرد ما يصفو فمن أين أشربُ

ظمئ الشاعر إلى إدراك غاياته التي تعذر إدراكها، وحاول الورود إليها ببذل الجهد وتوظيف الإمكانية ، لكنه في نهاية المحاولة لم يحصل على غاياته ،إذ لم يصْفُ الوِرد "الغايات" .

ألا ليت صدر الغيب مازال كاتمي
كما يكتم الأسرار حرٌّ مهذبُ

هنا يتمنى الشاعر لو أنه لم يأت إلى الحياة، وظل سرًّا مكتوماً في  أطواء الغيب، مثلما يكتم الرجل الحر المهذب الأسرار فلا يفشيها.ووصف كاتم السر بالحر والمهذب ،فهو يملك الحرية في إفشاء السر، بيد أن تهذيبه"خُلُقه العالي"يمنعه من ذلك.

هو الدهر أما يومه فهْو أرقمٌ
يصول وأما ليله فهْو عقربُ

بنظرة سوداوية يتحدث الشاعر عن القدر الذي حال دون تحقيق آماله ويصفه بالأرقم "الثعبان" الذي يلدغ في لحظة مباغتة  في وضح النهار "يومه"، وكذلك هو غادر كالعقرب المندسة في ظلمة الليل، وفي البيت ثنائية ضدية بين اليوم ويقصد به النهار والليل، وإيراده اليوم والنهار أي أن هذا هو دأب الدهر "القدر" معه طوال الوقت.

وفي هذه الأبيات بل وفي القصيدة كلها لم يفصح الشاعر صقر الشبيب عن غايته التي لم يحققها وألقى اللوم في عدم تحقيقها على أحداث القدر ،فجعلها في متناول التأويل المفتوح، هل هي غاية اجتماعية أم مادية أم عاطفية؟.

وفي صباح اليوم السابع من شهر أغسطس 1963 دخل عليه خادمه ليوقظه إلا أن الشبيب كان قد أسلم الروح إلى بارئها وكان مريضا ، بيد أن روحه الشعرية ستظل نابضة بالحياة والجمال في أطواء الوجدان.
رحم الله صقر الشبيب  فهو شاعر مهم من شعراء الكويت ، لم يمنعه العمى والظرف الاجتماعي الصعب من اكتشاف شعلة الشعر في أعماقه إذ نمّاها بالاطلاع على المؤلفات الأدبية سماعاً بمساعدة أصحابه الأوفياء.
وستحيى ذكراه كذكرى أقرانه شعراء الكويت جذوة متقدة في ذاكرة الأجيال سيما عشاق الشعر الكلاسيكي الفصيح.

تعليقات

اكتب تعليقك