الحدود القبلية لحل الخلاف الاماراتي السعودي
خليجيسبتمبر 1, 2009, منتصف الليل 3725 مشاهدات 0
في غفلة من كل التزام أخلاقي بدأت في أبريل 1992م حرب البوسنة والهرسك، في احتفالية دم رهيبة مؤذِنة بعودة الإنسان إلى الهويات العرقية والطائفية والعنصرية بأوضح صورها، تبعها بروز أصوليات جشعة من نوع آخر تدثرت بقيم العولمة وقيم المحافظين الجدد، والعلمانية الفرنسية التي كشرت عن أنيابها لهتك ستر طالبة محجبة أو لحماية وقاحة ملحد يتطاول على الأديان السماوية. وفي خليجنا ضم القبائلية إليها أستاذ النقد والنظرية في جامعة الملك سعود د.عبدالله الغذامي كما يقول «بأقوى صيغها حتى لتبدو أشد حدة مما كانت عليه قبل مرحلة كمونها المؤقتة في فترات مضت».
ولسنا هنا في مجال نقد اجتهاد الغذامي الذي وضع في انتقائية تلفيقية صحوة القبيلة في مصافّ العرقية والطائفية والعنصرية التي تهدر الدماء. فبناء على النظرية الخلدونية كان الغذامي المولود في عنيزة لا يزال وفيا لاصطفافه القروي ضد القبيلة، ولا يزال أيضا وفياً لطروحاته في مجالات الحداثة ونواحه المرير على سقوط النخبة وبروز الطرح الشعبي. لكن ما يعنينا من ذلك كله هو ملاحظته لصحوة القبيلة لتكون بين التطرف الليبرالي والتشدد الديني، فقد جاءت صحوة القبيلة في نفس سياق الصحوات الأخرى مثل الإسلامية السنية بعد يونيو67، والشيعية بعد ثورة سماحة الإمام الخميني، حيث نزعم دون وجل أن صحوة القبيلة الصحية الراهنة ستحولها تدريجيا بوعي أبنائها إلى إحدى مؤسسات المجتمع المدني، بأنشطتها التكافلية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية.
لقد تذكرت صحوة القبائل حين قرأت عن تجدد قضية الحدود بين أشقائنا في المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، وتذكرت حلا مؤجلا عمره 87 عاما منذ مؤتمر العقير 1922م لحل مشاكل الحدود في حينه بين نجد والعراق والكويت، والذي حضره الشيخ فهد الهذال شيخ العمارات من قبيلة عنزة لتأكيد البعد القبلي لواقع تلك الأيام. حيث يقول أبوحاكمة في كتابه (تاريخ الكويت المعاصر): إن ممثل العراق صبيح بك قال «إن حدود العراق تمتد جنوباً حتى اثني عشر ميلاً من الرياض، ويحدها البحر الأحمر من الغرب، وتمتد شرقاً لتشمل الهفوف والقطيف على الخليج العربي». أما ابن سعود فقال «أراضي نجد وعالم البداوة تمتد حتى حلب شمالاً ونهر العاصي في شمال سوريا وكانت تشمل جميع البلاد الواقعة على يمين الفرات ومن هناك إلى البصرة على الخليج العربي». وفي الجلسة الثالثة تركز الحديث حول الحدود والقبائل فقدم ابن سعود تقريراً جاء فيه: «إذا سألوك من قبيلة العمارات قل إنها من عنزة، وعنزة من أبناء عم ابن سعود ورعاياه». وقال «إن الظفير هي قبيلة من بدو العراق تابعة له ولذلك فمن الضروري أن تمتد حدود نجد إلى الفرات لا لأنه يرغب في السيطرة على النهر المذكور بل لأن الظفير والقبائل البدوية الكثيرة الأخرى تنتقل سنوياً إلى نهر الفرات ولا يمكن أن تحرم من هذا الحق لأنه مسألة حياة أو موت بالنسبة لأهل البادية». واستمرت المحادثات وأعلن عبدالعزيز أنه على استعداد للتخلي عن قبيلتي الظفير والعمارات بشرط وضع خط لحدود القبائل يضمن حقوق القبائل التابعة له، واقترح أن تكون الآبار والمراعي الواقعة في الجنوب التي تعود لقبيلتي عنزة والظفير وقبائل الكويت ماعدا قبائل مطير والعجمان والعوازم التي يعتبرها من رعاياه، وأما الآبار التي كانت ملكاً مشتركاً بين عنزة والظفير ومطير فتصبح منطقة محايدة». فسأل «ملك الخليج غير المتوج» السير برسي كوكس (Sir Percy Cox) «كيف نثبت ملكية هذه الآبار؟» فرد عبدالعزيز «بوجود بصمات قديمة على جدران الآبار الداخلية». وفي اليوم السادس قام كوكس برسم خريطة الحدود المعروفة لنا اليوم بين الكويت والعراق والمملكة العربية السعودية.
لقد رفع النفط الحدود التي وضعت في العقير 1922م من الرمال البعيدة إلى أفئدة الرجال وعقولهم وكتب المدارس وأوراق العملة والهويات الشخصية، وأحاطها مزيجه الأسود بهالة قدسية فصار مجرد التفكير في تغييرها جرس إنذار في دشمة طائرات الإقلاع الفوري على طرفي الحدود، ودخولاً إلى وكر المحرمات من أوسع أبوابه. لكن الصحوة القبلية التي أثارت هلع الدكتور الغذامي، وأزمة الحدود الصيفية بين دولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية ثم الحدود القبلية التي اقترحها المغفور له الملك عبدالعزيز بن سعود كلها دفعتني لارتكاب معصية التفكير في إعادة رسم الحدود الخليجية من منظور قبلي كما اقترح المغفور له الملك عبدالعزيز بن سعود.
لا شك أن الحدود الخليجية الجديدة جاءت من جذور أوروبية بعد انتشار مبدأ القوميات في أوروبا، فهي والحالة هذه مستورَد أوروبي يسهل الاستغناء عنه حال وجود البديل، وحال انتفاء أغراضه، أو حين يكون غير مناسب لنا، وكلها ذرائع موجودة لنسف فكرة الحدود الأوروبية. فنظام الحدود الإسلامي أصلاً يحرم فكرة الحدود الحديثة، فلم يكن هناك حدود بل أمصار جغرافية فتلك هي أرض العراق وأرض مصر والأحساء، ولا يجوز استخدامها لمنع مسلم من التجول بداخلها. إنما المنع كما قال الفقهاء هو بين دار الإسلام ودار الكفر فقط، فدار الإسلام هي البلاد الخاضعة لسلطان المسلمين وحكمهم، ودار الكفر هي البلاد الخاضعة لسلطان الكافرين.
إن الدعوة إلى التفكير في الحدود القبلية كحل للخلافات الحدودية الخليجية قد يدخل في باب اللاواقعية عند البعض، لكن ارتياد غير المعتاد في العلاقات الدولية للخروج من الأزمات هو من أبرز سمات عصرنا الراهن، ولا يدخل في باب خلخلة المسميات واليقينيات ورفض المطلقات بل هو ببساطة رجوع لعلاج محلي دُفع جانبا في ظروف خاصة.
لقد أعاق تطبيق الحدود القبلية في حينه طمع الحكام في حصيلة الزكاة التي كانت تدفعها القبائل، أما في زمن الاقتصاد الريعي فقد تحول الحكام إلى مصدر للعطاء وصارت كثرة القبائل تثقل كاهلهم. والحدود القبلية خطوة نحو تحقيق المواطنة الخليجية حيث تمثل القبائل في الخليج بما لا يقل عن %80 من سكان الخليج عند استثناء الوافدين، ولا يوجد قبيلة واحدة على الخليج ليس لها امتداد في أربع دول خليجية على الأقل، فلو حررنا تواصل هذه النسبة الكبيرة من قيود الحدود الحديثة والسيادة القطرية الأوروبية الأصل وأعطيناهم حرية التحرك بكافة أنواعها داخل دول المجلس لتبعها خطوات أخرى لتحرير بقية السكان. كما أن اقتسام نفط المنطقة المحايدة بين الكويت والسعودية منذ 1958م، واقتسام حقل أبوسعفة بين البحرين والسعودية خير دليل على إمكانية تجاوز الخلافات النفطية، وعلى من يراهن بصورة تعسفية على عدم واقعية الحل القبلي أن يتذكر أنه كان أول حل تبادر إلى ذهن أهل المنطقة، وأن يتذكر أن الفرنسي يستطيع الدخول إلى سويسرا دون أن يلاحظه أحد، لأنه من (قبيلة أوروبا).
تعليقات