محمد الرميحي: لافروف في الخليج!

زاوية الكتاب

كتب 506 مشاهدات 0


الحدث الأبرز في الخليج، الأسبوع الماضي، هو زيارة وزير خارجية روسيا الاتحادية سيرغي لافروف المنطقة، وهو يسير باتجاه إنهاء العقد الثاني في وظيفته وقد راكم خبرات في مسيرته الدبلوماسية. الزيارة بدأت في البحرين ثم لقاء موسع مع وزراء خارجية مجلس التعاون الخليجي في الرياض.
 
الموضوع المطروح للنقاش لم يكن سهلاً، فأجندة روسيا في المقام الأول (حشد الأنصار) وأجندة دول الخليج في المقام الأول (لفت النظر إلى التهديدات الأمنية لدول الخليج). الموقف برمّته ليس هيناً، فقد وضعت الحرب الروسية - الأوكرانية المنطقة أمام خيارات صعبة.
 
على المستوى الخليجي الشعبي، سنجد قوس قزح من الآراء تجاه الحرب، من التنديد ووصفها بـ"العدوان" الروسي  على بلد جار، إلى التأييد الكامل لروسيا (لصد التوسع الأطلسي)! لا تخلو هذه المواقف من أجندات اعتادتها السياسة العربية الشعبية في الغالب على طريقة (ليس حباً في علي ولكن كرهاً لمعاوية)!
 
أما على الصعيد الرسمي، فإن الحياد والتفهم لكلا المنطقين الروسي والغربي هما الظاهر على السطح، مع تأكيد أهمية احترام القرارات الدولية، وأيضاً عدم الموافقة على استخدام القوة لحل المنازعات أو تغير الحدود أو الأنظمة. من أجل ذلك اقترن لقاء لافروف باتصال المجموعة الخليجية بوزير خارجية أوكرانيا في الوقت نفسه للاطلاع جماعياً على وجهة نظره، وهي معروفة لكن الخطوة لبيان شيء من عدم الانحياز.
 
دول الخليج تعرف ما تعنيه إكراهات الجغرافية، فهي لا توافق على أن تقوم جارة باحتلال جارة أخرى عن طريق الحرب، بسبب أن في تلك الدولة أقلية عرقية أو ثقافية أو فئوية، لأن ذلك ببساطة ليس فقط خارجاً عن القواعد الدولية المتبعة، ولكنه أيضاً يشكل شيئاً من احتمال تبرير أعمال إيران ببسط نفوذها على العراق واليمن ولبنان وسوريا وانفتاح شهيتها على الخليج! أما موقف دول الخليج تجاه الغرب فهو "جفوة مرتفعة النبرة" تجاه الدول الغربية، وبخاصة الولايات المتحدة. فالأخيرة تحمّست ضد الغزو الروسي وتمهّلت ضد الغزو الإيراني، وكلاهما في العمق سوية واحدة! كما أنها تراخت في اتخاذ موقف صلب من التدخل الروسي في سوريا، وقد ارتكبت "حماقات" سياسية وعسكرية أضرّت بمصالح دول الخليج!
 
تربط دول الخليج علاقات تاريخية بالدول الغربية والولايات المتحدة، كما تربطها علاقات اقتصادية بالشرق (الصين والهند) الذي يتعاطف مع الموقف الروسي، إلا أن العلاقة بالغرب أطول.
 
لافروف خرج بالحد الأدنى لما يريد (لا انضمام خليجياً إلى المقاطعة الاقتصادية الغربية) ولا خروج فورياً من اتفاق الأوبك النفطي الذي تشكل فيه روسيا عموداً اقتصادياً مهماً.
إلا أن الأمور ليست بهذه البساطة، فلم يفوّت لافروف الفرصة ودعا إلى عودة سوريا إلى الجامعة العربية، فهو ابن النظام السوفياتي القديم والشمولية في الحكم أقرب إلى راحته، كما أن سوريا هي الحليف الذي اعترض على بيان الإدانة في الجمعية العامة للأمم المتحدة للغزو الروسي دون جميع الدول العربية. الدول العربية، ومنها الخليجية، وافقت على بيان الإدانة الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، أما قرار مجلس الأمن فقد امتنعت دولة الإمارات بسبب معرفتها أن القرار لن يمر لأن هناك فيتو روسيا ينتظره!
 
ما شهدناه من الحرب الروسية الأوكرانية حتى الآن هو  رأس جبل الجليد، وهو مهول، ويبدو أن المعادلة للطرفين الروسي والغربي معادلة "صفرية" حتى الآن، أي أن روسيا مصممة على إخضاع أوكرانيا، وهي حتى الآن لم تفصح عن الهدف الأخير للحرب! والغرب (أوروبا والولايات المتحدة وحلفاؤهما) مصممون على أن لا تحقق روسيا أي انتصار واضح يشجعها على تكرار ما فعلته في أوكرانيا، والساحة مفتوحة لكل الاحتمالات، حتى الآن على الأقل.
 
الحرب أيضاً فجرت حرباً اقتصادية رديفة، على رأسها أسعار الطاقة وأيضاً أسعار الغذاء، لذلك فإن التضخم شبه المنفلت يدق الاقتصاديات الغربية بقسوة، ويُسمع في نسيجها الاجتماعي ويسقط شرائح عديدة من ذلك النسيج تحت خط الفقر.
 
الغرب يعرف أن "بيضة القبان" في موضوع الطاقة في الخليج، فتوجه عدد من رؤساء الحكومات مبكراً إلى هذه الدول لإقناعها بضخ نفط أكثر في السوق من دون نجاح كبير، كما أن الولايات المتحدة بدأت تقتنع بأن معركتها مع (خصومها في الشرق) تمر قسراً بدول الخليج، وأخذت بإرسال إشارات دبلوماسية، من بينها توجه وفد عالي المستوى للتعزية بالمرحوم خليفة بن زايد رئيس دولة الإمارات، ضم نائبة الرئيس ووزير الدفاع ووزير الخارجية، ذلك مؤشر أكثر من تعزية بروتوكولية، ومن جهة أخرى بدأت واشنطن تُليّن موقفها تجاه المملكة العربية السعودية، وهي تعرف أنها رقم مهم في سياسة الشرق الأوسط، كما هي رقم مهم في سياسة الطاقة.
 
في مرحلة مقبلة، فإن الخيار الأفضل لدول الخليج هو التفاهم الاستراتيجي مع الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة، وقد كتبت في السابق انك تستطيع أن تختلف مع الولايات المتحدة، ولكن لا تعاديها، فذلك مضر بالخليج. واضح أن مؤشرات الدبلوماسية الأميركية تتجه إلى تفهم أعمق لهواجس دول الخليج الأمنية، وقد تضع زيارة الرئيس جو بايدن للسعودية وسط تموز (يوليو) المقبل النقاط على الحروف من جديد لطريق أوضح للتعاون.
 
على مقلب آخر، شرعت دول الخليج المنتجة للنفط بضخ كميات منه إلى السوق العالمي، الأسباب المعلنة أن ذلك تم برخصة من "الأوبك بلس"، وغير المعلنة أن روسيا بدأت تبيع الدول "الصديقة" نفطاً بأثمان مخفضة. سوق النفط كأي سوق آخر انسيابي، فوجد بعض ذلك النفط المخفض التكلفة طريقه إلى دول أوروبا، ما يخل بتوازن السوق. فمن المحتمل في الأشهر القليلة المقبلة، وبخاصة مع بدء فصل الشتاء، أن تزداد تدفقات الطاقة إلى السوق الدولي، فيحقق من جهة ضبطاً معقولاً في سرعة التضخم، ومن جهة أخرى تهدئة شرائح واسعة في المجتمعات الغربية من الانقلاب على حكوماتها.
 
من هنا فإن المباحثات الخليجية - الغربية المقبلة هي استراتيجية توضع فيها كل الملفات على الطاولة، ويأخذ كل صاحب حق حقه! لافروف خرج بالحد الأدنى من الزيارة، إلا الأهم هو ما حققته دول الخليج بتأكيد الحكمة القائلة "إن الكل أكبر من مجموع الأجزاء".

تعليقات

اكتب تعليقك