شاعرية اللاتوقُّع في وليمة الأقدام.. قراءة في شعر عمار عبدالخالق بقلم: د.علي حسين يوسف

فن وثقافة

544 مشاهدات 0


د. علي حسين يوسف وعمار عبدالخالق


ما كان الشّعر في نصوص المجموعة الشّعريّة (وليمة الاقدام ) للشّاعر العراقي عمّار عبد الخالق تعبيراً عن أفكار , فالأفكار تبدو عقيمة بل عاجزة مقارنة بقوة الصور المنثالة التي تتفلت من الإمساك في كلِّ مرّة مثل سلاسل كلُّ حلقة فيها لا تدين لشيء سابق , هذه الفجائية في توارد الصورة تشي باللاتوقع المحبَّب , فحسب القارئ أنه سيكون في موضع من يطلب جديداً في كل مرّة , وله أن يصنع انطباعاته بعد ذلك كيف شاء ؛ له أن يقلّب بأوجه لا حصر لها ذلك الأفيون الحسن النوايا وذلك الصراخ الصادر من نقطة كهرباء ونظام الأندرويد البرمائي ومرحاض النوايا الحسنة والبركة الأمامية للطائر وصدر سلة المهملات والسائل العقاري وغيرها من الصور والتراكيب التي يعمد النّاص لمواجهة القارئ بها .

وقد يخيل للقارئ وهو يطالع هذه النّصوص في  (وليمة الأقدام ) أنّه أمام لا جدوى عارمة وهو إزاء تراكيب وألفاظ ربَّما يصعب تحديد دلالاتها أو الحدس بالغايات المترتبة على علاقاتها التركيبية , لكنَّ هذا الظَّن سيزول حتما إن أمعن القارئ في الرُّؤى التي تقف خلف تصنيع مثل هذه النّصوص فإن كان المتلقي قد فصِّلت ذائقته على ما هو متوارث من مفاهيم فإن ذلك لا يضعه تحت لائحة اللوم إما إذا كان ممن يجدّون في طلب القصد من وراء صنيع الشعراء الشّباب فإنه سيضع يده على مفاتيح النصوص التي أمامه فلم يعد الشعر ذلك الكلام الموزون المقفى ولم يعد الشاعر منشغلا بالمديح أو الرثاء أو الغزل أو الفخر ولم تعد التفعيلة أو السطر من مهماته بل لم تعد صناعة النثر بإيقاعاته الداخلية من مهماته فالشعر بحسب الفهم الجديد الذي تبناه عمار وعدد آخر من الشّعراء الشّباب تبعا لمذاهب أدبيّة أضناها المخاض حتَّى اكتملت رؤاها لم يعد يمتثل لمقولات الأسلاف أو يتقيد بحرفياتها بل أصبح مساحة هائلة من الحرية وحالات لا حصر لها من تهيئة الخيال كي يسبر أعماق الوجود ويحاول ما أمكنه خلق عوالم مع كل قراءة :    
هناك كلامٌ كثيرٌ  
صوتُ النافذةِ - صخرة  
الصخرةُ رحلة استرخاءٍ في منشطات الصحون  
زهرةُ  الجلنار غافيةٌ الآن في المناديل الحرارية...
مذعور جالسٌ في دائرةِ الطاولة  
يغني على استقامة الحائط    
ومتحف النهدينِ في غرفةِ المروحة    
يشاهد نشرة الأخبار المرتوية  
بالقادةِ والحليب...  
إنَّ أي نصّ من هذه النّصوص لا تموت ولا تركن ولا توضع على رف الانتظار بعد القراءة الأولى وكأني بها وهي تتطلب مزيداً من التّأويلات فلعل القراءة السابقة ما كانت إلا إساءة لمن بعدها وهكذا تظل هذه النصوص مدعاة لتوليد نصوص موازية في ذهن القارئ حتى وإن لم تكن النصوص المولدة تحاكي النص الأصلي لكن يكفيها نسباً تلك الدفقة التي كانت سبباً في ولادتها مع كلِّ قراءة .
لا أحدَ يحرقُ أجسادَنا البخارية المخدرة بـالكيلومترات والترياق في التقويم  
سوى الآلات الموسيقية    
التي تُعزفُ عليها.. برقيات الحكمة
في مصيدة صكوك الغفران!
عند مزرعةِ الثلوجِ المسبرةِ من التلفاز  
وما يلاحظ على نصوص هذه المجموعة ذلك الارتباط الوثيق بالأشياء وهي في حالتها المبعثرة وكأن كاتب النّصوص يساكنه مسعى دائم لأن ينظم تلك الأشياء خيوطا لا حصر لها أما مسألة انتظامها فهو أمر موكول لشواش الأفكار فنحن أمام سيرة ذاتية لكنها للجهاز الهضمي وأمام غرفة غير محددة الملامح وأمام مخلوقات في غير زمانها وفي غير مكانها وأمام أشياء لا رابط بينها إذ لا مأوى للكائنات في الطابق السفلي من جهنم وقد وجد من يرمي المنقار بوجه العقارب وربما كان المطبخ مسرحاً حين يكون طلاء الصّحون فارغاً ويكون الممثلون ميتون في ثلاجة النّصّ :    
ليلة واحدة  
فقط  
تنهي أمعاءَ صليب  
ترقصُ على ساعةِ يسوع  
يغادرُ آدمُ من القطبِ الجنوبي  
يركضُ أنبياءُ الاحتلالِ حاملين بوصلة دوامات الحروب...  
جميعُ ظواهرِ الديناصورات قابلةٌ للاشتعال فقط اضغط على زر الكيبورد للعارفين  
بالبحرِ الميت... لا تقترب قليلاً  
من أجل رئة الخشبِ تختفي الكثير من المناشير!
الرياح العكسية كتلٌ دهنية .
ويمكن أن نؤشر في هذه النقطة أنَّ الصّورة في نصوص (وليمة الأقدام) لم تعد هي ذاتها التي ألفتها ذائقتنا المتوارثة منذ مئات السنين بفعل الجينات الثقافية المتأصلة بل صارت شيئا مشفّراً أو قل أنَّ الصورة هنا صارت لاوعياً يتطلب جهدا وإعمالا لسبر أغواره فلم تعد مقاييس الحسن والقبح تنبطق عليها ؛ لقد تخلَّقت مقاساتها وتوصيفاتها بتخلقها هي حتّى تماهت تلك المقاييس معها فليس من المستغرب أن تغادر المرئي والمعقول والمنطقي إلى اللامرئي واللامعقول واللامنطقي أي صوب اللامتوقع :
من أجل
أن يعبروا من المحيطاتِ إلى فصيلةِ الدمِ الذهبي  
كـسرب جرادٍ بالألغازِ يغنون
هنا لا تستيقظُ النقطةُ  
فـرأسُ السطرِ ميتٌ منذُ الولادةِ إلى يومِ يُبعثون!
إنَّ هذا النمط من الكتابة الشعريّة لم يكن بِدعاً في عالم الأدب إنّما أملته الحاجة التي تمثّلت في الانزياح إلى المناطق النائية من وطأة الأعراف الأدبيّة وصنمية تعاليم الكهنوت الشعري نحو عوالم التشظي والأحلام التي تصب في بودقة التوحِّد مع الوجود فهو نوع من الفوضى الخلاقة التي يسعى الشُّعراء من خلالها إلى ردم الهوة بين الوعي واللاوعي وبين الحلم والواقع وحسب قارئ (وليمة الاقدام) أنه أمام نصوص تمثلت هذه الرؤى بشكل واضح .

تعليقات

اكتب تعليقك