رجا القحطاني: بنو عذرة أوقدوا دهشة العرب «عشق جميل وبثينة»

فن وثقافة

كتب رجا القحطاني 992 مشاهدات 0


ذات صباح استيقظ أهل حيٍّ من أحياء بني عذرة في بادية الحجاز على أصوات بشرى بولادة طفل في حيهم، وصادف أن سنه 659 ميلادية هي عنوان ذلك الزمن الذي ولد فيه ذلك الطفل، علم الحيُّ أن "معمر" والد الطفل أسماه "جميل" لكنهم لم يعلموا أن هذا المولود الجديد سيصير إلى ما صار إليه أحدوثة الركبان من مشرّق ومغرّب، وفاكهة السمار في ليلهم الطويل ، "جميل" ذاته لم يعلم أنه يومًا ما ستغرق مراكب روحه في أمواج العشق غرقًا لا يموت الغريق فيه ولا يحيا، ولم يتوقع وهو صبي يجلس على بساط العشب منتبهًا إلى إبله المتهادية في أرض المرعى أن اسمه سيرتدي رداء الشهرة، رداءً لا يبلى جيلاً تلو جيل وقرنًا وراء قرن.


ذات مصادفة كانت المشادة الكلامية عنوان لقائهما الأول، لكن مَنِ الطرف الآخر في هذا اللقاء؟، إنها بثينة بنت يحيي العذرية، شريكة جميل في تسطير قصة من أروع قصص العشق التي طرقت أسماع العرب، قصة حقيقية عنوانها العشق العذري، كلماتها العاطفة النارية، عباراتها الوجد اللا نهائي.
هل تشاتما في تلك اللحظة حين نفّرت بثينة إبل جميل؟، لم تكن حكاية التشاتم لتخرج من دائرة التشكيك لولا أن "جميل" اعترف بها:
وأول ما قاد المودة بيننا
بوادي بغيضٍ يا بثين سبابُ

إذن مارس كلُّ منهما بشريته في الانتصار لنفسه، قد لا يكونان راغبيْن في السباب ذاته، لكنه ردُّ تلقائيّ وتصرفٌ لحظيّ أملته حتمية الموقف، ها هو "جميل" يؤكد ذلك:


فقلتُ لها قولاً فجاءت بمثله
لكل  كلامٍ  يابثين  جوابُ  

ربما أعجبه في "بثينة" جرأة المرأة في الدفاع عن ذاتها، حرارة ثقة الأنثى بنفسها في لحظة يكون فيها الصمت الأنثوي أبرد من الجليد.. وربما أعجبها في "جميل" الرجل الصادق في انفعاله، الرافض للتصرف الخاطئ وإن جاء من امرأة.
كان الإعجاب المتبادل بينهما شرارة الشعور الأولى في وجدانيهما، سرعان ما تحولت الشرارة إلى لهب عشقٍ مضطرم، لا يعرف "جميل" لابتدائه سراً، ولا تدرك "بثينة" لانتهائه خبرا:


والحب أول ما يكون لجاجةً
تأتي  به  وتسوقه  الأقدارُ
حتى إذا اقتحم الفتى لجج الهوى             جاءت  أمور  لا  تطاق   كبارُ


مازال جميل عاشقًا لا يبرح الشوق لحظاته المتلاحقه، ولا يغادر الشجا خطرات قلبه الحائر، كأنه يمارس العشق طقوسًا صوفيةً لكن في زاوية الهوى، فلا يملّ من استمرارها، ولا يتوقف عن تكرارها:


إذا خطرت من ذكر بثنة خطرةً
عصتني شؤون العين فانهل ماؤها
فإن لم أزرها عادني الشوق والهوى     وعاود. قلبي  من  بثينة  داؤها


لم تغب بثينة عن المشهد العام في دنيا جميل الغرامية، فهي دنياه بما تنطوي عليه من فراقٍ يصليه رمضاء الحنين، ووصل يحييه بمطر الهناء، إنها امرأة "إنسان"، خرجت من أسيجة القلق – سمعة المرأة – إلى جنبات الحب الذي بناؤه الصدق وجدرانه العفة:


والذي تسجد الجباه له
مالي بما دون ثوبها وطرُ
ولا بفيها ولا هممتُ به
ما كان إلا الحديث والنظرُ


لم تكن بثينة ذات جمال فائق، لكن ثم َّجمال خفيٌ فيها، يراه جميل بمشاعر قلبه لا بعينيه، يلمسه بأنامل إحساسه لا بيديه، جمالٌ ما ألقاه في شباك هواها، وكيف لا يهتز قلب بثينة تفاعلاً وهي ترى عاشقها يتهاوى في أغوار عشقها، ولا يتردد في رفض خلود حياته . - لو جاز لها الخلود -  في سبيل ساعة لقيا تسيج حياته بأفياء السعادة:


مضى لي زمان لو أخيّر بينه
وبين حياتي خالداً آخر الدهرِ
لقلتُ ذروني ساعةً وبـثينـةً
على غفلة الواشين ثم اقطعوا أمري


على غرار اختبار العشاق بعضهم بعضًا ليزدادوا تيقنًا من تماسك مشاعر أفئدتهم، ها هي بثينة تبهج جميل بوصالها مراتٍ وتجفوه مرة، تختبر صبر قلبه على دلالها إذا تدثر بلباس الجفوة، لكن جميل ينزع أشواك التجافي من أرض التصافي فينجح في الاختبار:


ليت شعري أجفوةٌ أم دلال ٌ
أم عدوٌّ أتى لبثنة بعدي
فمريني أطعك في كل أمرٍ    
أنت والله أوجه الناس عندي


لم يكن القدر ينظر إلى جميل وبثينة "بعين الرضا" ، ظلت النهاية المرجوة لهذا الحب الطاهر أملاً سرابيّاً ينداح نأيًا ، كان جميل العاشق دائمًا يستدعي جميل الشاعر ليخفف عنه وطأة الأحزان ويشتت عنه أشباح اليأس،
فالشعر هو الضماد الوهمي للجرح الوجداني المتجدد الآه، هو وهميٌّ لكنه ضماد على أية حال:


يقولون مسحورًا يجن بذكرها
فأقسم مابي من جنون ولا سحرِ
إذا مانظمت الشعر في غير ذكرها
أبى وأبيها أن يطاوعني شعري


غلبت جميل غيبوبة الوجد وقسوة الانتظار، لم يعِ أن شعره في محبوبته صار الصخرة الأشدّ تعويقًا في طريق أحلامه المتسارعة، تسللت قصائده المشحونة بأطياف بثينة إلى أروقة الحىّ والأحياء المتناثرة في أنحاء البيد، تشي بها ألسنة الحاضر، بل امتطت قوافل الزمن نحو مشارف المستقبل، فخفتَ اسم معمر من جوار اسم جميل، ليلمع محله اسم بثينة في ذاكرة الناس، ليتحول الاسم الثنائي إلى جميل بثينة في "البطاقة العشقية". كأنما أكف العشق لم تكتف بأن تجاور بين قلبيهما، فنسجتهما اسمين متجاورين، لكنهما عاشقان حرمتهما قيود الواقع وعدائية المجتمع القبلي من احتواء عشقهما في خاتمة سعيدة:


أرى كل معشوقين غيري وغيرها
يلذان  في  الدنيا  ويغتبطانِ
وأمشي وتمشي في البلاد كأننا
أسـيران  للأعداء  مرتهنانِ


نما إلى مسامع أهل بثينة ترديد اسمها في شعر جميل، تصلَّبوا قلعة غضب عصية يتعذر على جميل الولوج إليها، يحمله الضياع إلى مرحلته الأخيرة، يتبخر حلمه بنهاية مفرحة كخيوط رمل متطايرة.
رباط مقدس وذكْرُ إمرأة في شعر عاطفي وإن كان صادقًا لا يجتمعان في مفهوم سكان البادية في العصر الأموي ، هل كان الشاعر في أعماق جميل يرتدي قناع التعاطف معه مخفيًا وراءه وجه التآمر ضده؟!
ينكفئ جميل على وحدته الموجعة بين نهارٍ يلف ضوضاءه الصمتُ وليلٍ يرتدي سكونَه الضجيج، ليستسلم العاشق لاندفاعية بوحه:


أظلّ  نهاري لا أراها  وتلـتقي
مع الليل روحي في المنام وروحها
فهل لي في كتمان حبي راحـةٌ
وهـل تـنفعنّي بـوحةٌ لو أبوحها


للتخفيف من ثرثرة الأفواه حول  هذه العلاقة   لم يتردد أهل بثينة في دفع ابنتهم إلى أول خاطب يطرق الباب،
إذن طرف ثالث  مباغت يسكن السطور الأخيرة  في قصة العاشقيْن ، يزيد عقدتها تعقيداً،وختامها  غموضاً،
تنتقل  بثينة إلى حياة جديدة معلوم ظاهرها إذ  غدت  زوجة رجل آخر ، مجهول  مؤداها إذ بدت إمرأة بائسة لم يتسنَّ لها اختيار شريك حياتها ، فضلاً عن فقدانها  شريك  حبها .

وفي الجانب الآخر من المشهد المحزن
ينزل خبر زواجها على جميل صادماً  ،يقاوم تصديق الخبر  ، يلجأ إلى الوهم ، هو كابوس نوم سرعان ماينتهي ، لكنه  بدا وكأنه أبدي العذاب ، صحا جميل من كابوس الواهم لا النائم ، أدرك أن أمله باستمرار وصل بثينة ليس إلا أوراق خريف تناهبتها رياح اليأس ، لكن نبض المودة لن يهدأ حتى لحظة الممات،مادام فؤاده ينتفض بحمَّى الحنين:

شهدتِ بأني لم تغيّر مودتي
وإني بكم حتى الممات ضنينُ
وإن فؤادي لن يلين إلى هوى
سواكِ وإن قالوا بلى  سيلينُ


لما هوتْ أحلام جميل في أطواء الشتات ، وتجسد له كل موضع فيه التقى ببثينه وجهاً حزينا ًوعيناً دامعة ،داهمته رغبة الرحيل إلى أي وجهةٍ  هرباً من ذكريات المكان وإن لم يجد خلاصاً من ذكريات الوجدان،فكانت مصر محط رحاله وملجأ آلامه ومرتجى تعزّيه ، فيها تجرع قساوة الغربة دواءً مسكنًّا لوجع الماضي الأشد قساوة،
لكن لكل حدث خاتمة ،  ولكل عمر ٍ نهاية حتمية،
كانت سنة 701 ميلادية السنة الأخيرة لحياة جميل،رحل العاشق الاستثنائي وبقيت تجليات عشقه المتدثر بالحس الشفيف تلويحة ًخالدة لكل عاشق  مدنف.
تُرى لو أن قصة الحب بين جميل وبثينة لم ترتد ِبعدها المأساوي وسياقها التصاعدي هل سيخلدان أيقونتين من أيقونات العشق العذري،  خفقاً أبديًّا  في قلب الذاكرة ،حديثاً ملهِِماً بين حبيبين؟.


بثينة سكنتها أحزان الدنيا برحيل جميل عن الحياة، وجميل حتى زفرته الأخيرة ظلت روحه تتمتم بطيف بثينه:


بكر النعي ُّوماكنى بجميلِِ
وثوى بمصر ثواء غير قفولِ
قومي بثينة واندبي وتحسري
وابكي خليلك دون كل خليلِ


بقلم رجا القحطاني

تعليقات

اكتب تعليقك