د. حامد الحمود: من ذاكرة بيروت وعودتها لـ«رأس بيروت»
زاوية الكتابكتب د.حامد الحمود نوفمبر 1, 2021, 9:29 م 3324 مشاهدات 0
كان المطر يتساقط بغزارة مساء الأحد 2009/3/1 بعد أن خرجت من مبنى الكونكورد حيث شاهدت فيلم «الحالة المحيرة لبينيامين بتون» والذي لعب دور البطولة فيه براد بيت والذي يحكي قصة حياة طفل يولد مسخا بجسم رجل عجوز، وبعد عشر سنوات من ميلاده، وفي الوقت الذي تتوقع أمه وفاته تتحسن صحته. فيتوقف انحداره السريع نحو الهرم والعجز الكلي. وعلى عكس الطبيعة، يبدأ جسمه بالتجدد إلى أن يصبح طفلا صغيرا في آخر حياته. لذا فإن معظم دورة حياته، كان يحمل روحا لا تعكس عمر الجسم الذي يحمله. انحدرت شمالا نحو شارع الحمراء متوجها للفندق الذي أسكن فيه يحميني من المطر شمسية يقترب قطرها من متر ونصف، كنت قد استعرتها من الفندق والتي تبلغ حوالي ضعف قطر الشمسيات العادية، وجدت نفسي مضطرا للتخلي عنها لأنها كانت تصطدم بالأشجار وأعمدة الكهرباء وأحيانا بشمسيات الآخرين. يبدو أن هذه الشمسية صممت أن تحمي حاملها من المطر عندما يسير وحيدا في الصحراء، لكن من يريد أن يتجنب المطر عندما يسير وحيدا في الصحراء.
لم تكن الشوارع والمباني والمحلات غريبة على، وأن كان معظمها قد مر بدورات من التجديد والتحديث. حتى مبنى الكونكورد نفسه يعتبر من المباني القديمة التي مضى أكثر من ثلاثة عقود على افتتاحه، كان ذلك عام 1972، أي قبل ثلاث سنوات من الحرب الأهلية التي اجتاحت لبنان خلال الفترة 1975-1990. وتميز هذا المبنى بأنه استطاع أن يحتفظ بدور عرض السينما فيه عاملة بعد أن أغلقت جميع دور العرض في شارع الحمراء ومحيطه في منطقة رأس بيروت. وكان آخر فيلم شاهدته في هذا المبنى قبل " الحياة الغريبة لبينيامين بتون " هو فيلم " العراب " والذي لعب دور البطولة فيه مارلون براندو، وكان ذلك في عام 1973، ومازلت أذكر من رافقني في مشاهدة هذا الفيلم، وأين ذهبت بعد مشاهدته. وفي انحداري نحو شارع الحمراء متوجها إلى الفندق، وجدت نفسي أسير في نفس الشوارع التي كنت اتبعها متوجها لسكني عندما كنت طالبا في أول السبعينات من القرن الماضي. وإذا استثنينا تضاريس الجسم التي أحملها، وجدت نفسي بروح وميول لا تعكس عمر الجسم الذي تحمله، وكأني أعيش بعضا من فصول حياة " الحياة الغريبة لبينيامين بتون "، وربما قد ساعد ذلك الحيوية المستعادة لشارع الحمراء ومحيطه من الشوارع الموازية والعمودية. فقد انتشرت المحلات بديكورات حديثة وبضائع مغرية، وافتتحت المقاهي والمطاعم في هذه المنطقة ومنطقة رأس بيروت عموما على نحو يضاهي بل يتفوق على ما كانت عليه في أول السبعينات من القرن الماضي، لذا فإن حيوية المكان طغت على روح حامل الشمسية الكبيرة، الذي أغلقها متقبلا تعرضه لرشفات باردة من المطر حثته إلى أن يعطي نفسه الفرصة لتناول فنجان من القهوة.
منذ أن انتهت الحرب الأهلية عام 1990، وأنا أراقب إعادة بناء بيروت ومحيطها ولبنان بشكل عام، بعد أن تفاعلت معه في حروبه الأهلية خلال الفترة 1975-1990. لكن ما جعلني أستغرق في التفكير فيه لمدة طويلة وأنا أجلس في مقهى في الجزء الغربي من شارع الحمراء، أي الجزء الأقرب إلى الروشة. واستمر إلى ما بعد عودتي للكويت، ليس المراحل أو الجهود التي بذلت في إعادة بناء بيروت، وإنما التغيرات التي طرأت والبحث الذي عاشته بيروت لتجد في النهاية مركزا لها، والذي أعتقد أن بيروت وجدته في النهاية في رأس بيروت، وربما في شارع الحمراء ومحيطه من شوارع موازية ومتقاطعة. لكنني قررت أن أستريح من التفكير في مركزية بيروت لأتجنب أحكاما مستعجلة، قد تكون ناتجة عن توق لمراحل سابقة من العمر. لربما اختلط البحث عن مركزية تجربة في حياة إنسان بالبحث عن تغيرات في مركزية مدنية. لذا قررت أن أعطي نفسي استراحة عن التفكير بمركزية بيروت، وقد ساعدني على ذلك جزءا من " النهار " كنت قد حملته معي ليومين دون أن أقرأه.
فقد نشرت «النهار» يوم الجمعة 27/02/2009 موضوعا عن طائفة الفرنسيسكان المسيحية ودورهم في لبنان للدكتور بيار مكرزل. وقد شدني للاحتفاظ بهذا الموضوع ليومين لأتفرغ لقراءته، ما سمعته عن هذه الطائفة المسيحية من مضيف لي في مدينة مونتفيديو في الأورغواي منذ أكثر من ثلاث سنوات، عن موقف هذه الطائفة الإنساني المعارض حملات التدمير التي تعرض لها السكان الأصليين على يد الكاثوليك الأسبان لإرغامهم على التحول إلى المسيحية بالقوة. فقد عارض الفرنسيسكان بحزم هذه الحملات معرضين أنفسهم لغضب البابا في روما الذي كان مؤيدا لعنف الأسبان على السكان الأصليين. وأخبرني مضيفي أن كثيرا من الفرنسيسكان دفعوا حياتهم ثمنا لهذه المعارضة. وقد كتب الدكتور مكرزل وأن كان من ناحية أخرى ما يعزز مصداقية ما أخبرني به مضيفي المواطن من الأورغواي ما كسبه أفراد هذه الطائفة من حب وتقدير من المسلمين في بيروت، فذكر في مقالته:
كان المسلمون في بيروت يظهرون احتراما كبيرا لكنيسة المخلص، كانوا يقصدون الدير، يعرضون مشاكلهم على الرهبان، يستشيرونهم، يطلبون أن يذكروهم في صلواتهم ويقدمون نذورا للدير. إذا مرض أحدهم لا يترددون في دخول حديقة الدير لأخذ الأعشاب المباركة من الرهبان وإعطائها للمريض أملا بشفائه. وكان السكان المقيمون قرب الدير ينتظرون زيارة الرهبان لحدائقهم وبساتينهم لمباركة الأشجار وثمارها. وكانوا يعتبرون البيت الذي يدخل فيه راهب فرنسيسكاني أن يباركه ويرشه بالمياه المقدسة.
أعود لقهوتي ثم لأستأنف تفكيري بالتغيرات التي طرأت على مركزية بيروت منذ عام 1990. فعندما بدأت تستعيد بيروت حياتها ببطء في أول التسعينات لم يكن هناك فنادق كافية في مدينة بيروت نفسها، وقد أعطى هذا فرصة لأن يتعرف الزائر عن قرب على مناطق جديدة عليه، مثل جونيه، وأدما والكسليك. وكم كانت المعاناة كبيرة عند الانتقال بالسيارة من المطار إلى رأس بيروت أو إلى جونيه. ومع أن المعاناة من تزاحم المرور تبقى أبدية في أغلب مدن العالم، إلا أن معاناة بيروت في ذلك الوقت تبقى قياسية، فالمسافة من المطار إلى رأس بيروت والتي تقطع الآن خلال ثلث ساعة، كانت تستغرق ما يزيد على الساعتين، أما إلى جونيه فتزيد أحيانا على ثلاثة ساعات. لذا تعود اللبنانيون والزائرون على أن يتقبلوا أن يتأخر الفرد ساعتين عن موعده. خاصة عندما يكون الزائر في فندق في جونيه قد التزم بموعد في رأس بيروت. لكن ما قد يجده القارئ غريبا أنه في كثير من الأحيان كنت أصحب لبنانيين من جونيه وكسروان لأعرفهم على منطقة رأس بيروت. كان بعضهم يدخل إليها لأول مرة، والبعض الآخر كان يدخل بتوجس وقلق. في هذه الفترة أصبحت " جونيه " مجازيا مركزا لبيروت. مركزية " جونيه " مجرد وصف لأهميتها المؤقتة بالنسبة لبيروت، حيث أنها هي نفسها مدينة صغيرة تبعد حوالي 20 كم للشمال الشرقي من بيروت.
المكان الذي جلست فيه لتناول قهوتي وللتأمل في كيف أعادت بيروت نفسها، كان موجودا في أول السبعينات. إنما كان بهوا أو لوبي لفندق، ولم يكن مقهى بالنجاح الذي أصبح فيه هذه الأيام. أبعاد المكان نفسه، الحجر، اللون وحتى الأرضيات.فقد صمد كل هذه العقود غير عابئ بما جرى في هذه المدينة من قتل ودمار وبناء. وخلال جلستي بدأت أشكك أحيانا بأن كل هذه السنين أو العقود قد مرت. فمعرفة المكان غمرتني بحميمية أنستني تقدم العمر، إلا أن هذا الشرود عن الواقع لم يدم طويلا، فقد قاطعته ابنتي الصغيرة، متصلة عبر النقال متسائلة عن موعد رجوعي للكويت، فنبهتني إلى نفسي وإلى الجريدة التي كانت معي والتي وجدت فيها قصائد جميلة للشاعرة ميرا دلمار- الكولومبية اللبنانية الأصل، ترجمها أنطوان خاطر، فقرأت:
تخالني من حجر
تخالني من حجر ...
وفي مقلتي أحفظ
لأحلامك المجنونة
ألف أفق واسع
وللجروح التي خلفتها فيك الطريق
أحفظ من بكائي
البلسم الدافئ المطيب
تخالني من حجر ...
وفي حلقي
لضحك الفرحان
صدى ضحكتي
وللحزن في ساعاتك المريرة
مناغاة
أعذب من ألطف النسائم
تخالني من حجر ...
وقد جعلت حياتي
صفحة صافية أشد صفاء
كمثل بحيرة كبيرة ساكنة
كيفما إليها تصل
وتنظر مفتونا
أن ليس غير صورتك
تنعكس في الماء
تعليقات