داهم القحطاني: وداعاً يا عاشق فلسطين.. وداعاً شفيق الغبرا

زاوية الكتاب

كتب داهم القحطاني 1078 مشاهدات 0


فقدت الكويت والوطن العربي السبت الماضي الدكتور شفيق ناظم الغبرا، بعد أن وافاه الأجل المحتوم بعد رحلة صراع مع المرض.

وشفيق الغبرا يعتبر واحداً من أهم مفكري الوطن العربي وأبرزهم في مجال العلوم السياسية خلال مرحلة ما بعد الغزو العراقي الآثم.

وامتاز الغبرا عن باقي المفكرين وأساتذة العلوم السياسية بكونه صاحب مسيرة نضالية عملية، بدأها في مواجهة الصهاينة على الأرض كفدائي شارك في عمليات فدائية استهدفت الجيش الصهيوني من على الحدود الشمالية لفلسطين المحتلة، وختم هذه المسيرة قبيل وفاته بسلسلة من الدروس اليوتيوبية التي تطرّق فيها وبالتفصيل للقضية الفلسطينة، رغم أن مرض السرطان أنهكه وأتعبه.

شفيق الغبرا من مواليد منطقة شرق في الكويت عام 1953، ووالده دكتور ناظم الغبرا الذي استوطن الكويت عام 1952 بعد هجرته القسرية من فلسطين المحتلة، حيث كان يعمل طبيباً في مصفاة النفط في مدينة حيفا. 

وقد كان والده من أوائل أطباء القلب في الكويت ودول الخليج العربي، وكان من الأطباء الذين لازموا أمير الكويت الراحل الشيخ عبدالله السالم في مرضه الأخير، كما ارتبط بصداقة عميقة وطويلة وأسرية مع أمير الكويت الراحل صباح السالم. 

والدته تنتمي لأسرة الطبري، التي ضمت شيوخ طبريا في فلسطين، وكان جدها مفتي طبريا، في حين كان والدها أحد رموز المقاومة العربية ضد الحركة الصهيونية.

حصل شفيق الغبرا على الشهادة الجامعية في تخصص العلوم السياسية من جامعة جورج تاون في الولايات المتحدة عام 1975، أما درجة الماجستير فكانت من جامعة بوردو انديانا، ونال الدكتوراه في السياسات المقارنة من جامعة أوستن تكساس عام 1987. 

تشرّب السياسة منذ الصغر، حيث كانت تدور في منزل والده نقاشات لا تنتهي عن قضية فلسطين وعن السياسة العربية.

وحتى حين كان يدرس المرحلة الابتدائية في بريطانيا، في مدرسة أغلبيتها من اليهود البريطانيين، كان يخوض وهو صبي نقاشات حادة وشجاعة مع مدرسين وطلبة لم يعترفوا بوجود فلسطين، واستطاع رغم صغر سنه أن يشكل لهؤلاء صداعاً يومياً جعلهم يسعون إلى نقله لمدرسة أخرى، فكانت هذه الحادثة بداية لنضاله المستمر في الدفاع عن قضية عمره فلسطين.

بعد إصدار قانون الجنسية في الكويت 1959 عرض الشيخ صباح السالم على صديقه ناظم الغبرا الحصول على الجنسية الكويتية لحاجة الكويت له ولخبرته فوافق بعد تفكير، مبدياً تشرّفه بهذه الجنسية التي وثقت انتماءه لبلد يحبه وهو الكويت.

كان شفيق الغبرا رحمه الله من المتميزين في عمله الأكاديمي، سواء كأستاذ للعلوم السياسية في جامعة أو كمؤسس وأول مدير للجامعة الأميركية في الكويت، وهي واحدة من أوائل الجامعات الخاصة في الكويت.

شخصياً ما زلت أتذكر كيف بذل جهوداً غير عادية للدفاع عن الموقف الكويتي بعد تحرير الكويت في الأوساط السياسية والإعلامية العربية خلال عمله كملحق إعلامي في سفارة الكويت في واشنطن وقبل ذلك وبعده، وخصوصاً أمام الكتّاب والأكاديميين والمحللين السياسيين الفلسطينيين والأردنيين، الذين كان بعضهم ما يزال يهاجم الكويت، حيث كان صوتاً كويتياً وطنياً يخاطب العالم بلهجته الأم.

أمّا خلال الغزو العراقي فلعب دوراً مهماً في مخاطبة الرأي العام الأميركي باللغة وبالأسلوب الذي يفهمه الأميركيون مما ساعد ضمن جهود أخرى في اتخاذ الكونغرس الأميركي قراراً يدعم التدخل العسكري لتحرير الكويت وبفارق أصوات قليلة. 

كان من القلائل الذين استطاعوا الدمج بين وطنهم الأم، والوطن الذي رحب به وبأسرته طوال عقود، وحتى حين حاول البعض الغمز من هذه القناة انتقاماً من مواقفه المؤيدة للحراك الإصلاحي الوطني خلال حقبة التجمعات المناهضة لقانون الصوت الواحد 2011، ترفع رحمه الله عن الرد على هذه المهاترات، وكفاه الرد الكثير من المغردين والكتّاب والسياسيين الكويتيين، الذين أثنوا على السيرة العطرة لوالده دكتور ناظم الغبرا، ولأسرته التي شاركت في نهضة الكويت الحديثة، وخصوصاً في مجال الطب، وطب القلب.

التقيتُ دكتور شفيق الغبرا مراراً، وجمعتنا علاقة جيدة، سواء خلال تغطيتي لمراحل إنشاء وعمل الجامعة الأميركية في الكويت كمحرر جامعي في جريدة الرأي العام، أو خلال عملي كمحرر برلماني، وقد كان بالفعل من الأكاديميين الذين كنت أحرص على أخذ رأيهم غالباً، فقد كانت عباراته سلسلة ومنطقية ومقنعة.

اللقاء الأخير كان في مؤتمر نظّم للدفاع عن فلسطين، شاركنا فيه معاً في نوفمبر عام 2018 بمدينة اسطنبول التركية، حيث أبدع كعادته في طرح تفاصيل القضية التي شغلت عمره كله، سواء حين كان فدائياً صغيراً يتصدى للصهاينة على الأرض، أو حين ختم حياته بسلسلة من الدروس عن فلسطين الأرض، وفلسطين القضية، وفلسطين العشق.

حين انتشر خبر وفاة دكتور شفيق الغبرا، اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي والصحف الكويتية والعربية والإقليمية بعدد ضخم من التغريدات والمقالات، التي تُثني على دوره المهم في إثراء المكتبة السياسية، وإثراء المحتوى العربي في مجال السياسة بالإنتاج العلمي المميز، وعلى دوره في التعريف بقضية فلسطين بشكل مستمر ومتجدد، وعلى نجاحه في تقديم صورة مشرفة عن الكاتب والأكاديمي العربي، الذي ينحاز إلى الشعوب من دون شعبوية، والذي يدعم القضايا العربية من دون إقصاء للآخرين، فيكسب المؤيدين ولا يجلب الأعداء.

عاش شفيق الغبرا محترماً وشهماً كما ذكر ذلك تلميذه الباحث في العلوم السياسية الكاتب مبارك الجري في مقالة رثاء مؤثرة نشرت هنا في القبس، ومات رحمه الله محترماً وشهماً، فله التحية والاحترام في الحياة والممات، ونُقدّم عزاءنا لأسرته الكريمة، ومنهم زوجته السيدة الفاضلة دكتورة تغريدة القدسي، وابنته دكتورة حنين الغبرا الأستاذة في قسم الإعلام بجامعة الكويت. 

رحمك الله يا دكتور شفيق الغبرا وأسكنك فسيح جناته.

تعليقات

اكتب تعليقك