محمد الرميحي: الاجتهاد العقلاني اليوم أصبح هدفاً وجب أن ينادي به كل العقلاء حتى لا يستمر هذا الخلط المدمر وبالضبط كما فعلت نخب المتقدمين والتي تحلت بالشجاعة الفكرية واحتكمت الى العلم والحرية
زاوية الكتابكتب إبريل 27, 2021, 11:35 م 821 مشاهدات 0
حقاً لم أكن اعرف معنى "حكم اللفيف" إلا بعد أن عُرض فيديو على إحدى محطات التلفزة، وكانت المحطة مشغولة كغيرها من وسائل الإعلام العالمية بمتابعة نتائج محاكمة جورج فلويد، المواطن الأميركي الأسود والذي قضى نحبه بسبب ضغط شرطي بركبته على رقبته، وعلت صرخته التي قالت "لا استطيع أن أتنفس" كمسرى الزلزال في قاع المحيط، فتداعت لنصرته مجاميع في أنحاء العالم وليس في أميركا فقط.
مناسبة البحث عن "اللفيف" أن المحطة التلفزيونية أرادات أن تبحث في أصل فكرة المحاكمة من خلال "محلفين" فوجدت أن الفكرة جاءت من الاجتهاد الإسلامي المالكي. قالت المذيعة ذلك وأضافت متعجبة أن "بعض الحقائق صادمة"! مستغربة كيف تأتي فكرة متحضرة من مجتمع مسلم؟ وربما لها الحق في قول ذلك، لأن الخلط بين الإسلام والمسلمين في زماننا أصبح معطى يومياً للإنسان العادي وحتى المطّلع نسبياً في الغرب. لا أكتب هذا المقال لأمجد او أنتقد موقف تلك السيدة، فالمواقف بخاصة الثقافية والسياسية نسبية ونتيجة تراكمات معرفية أكانت خطأ ام صواباً، ولكني أثير الموضوع لتحقيق هدفين موجهين لأهلنا، الأول: التفرقة بين ما يقوم به البعض من المسلمين من أعمال "إجرامية" ومن الإسلام في شكل عام، من أجل فصل الحقائق عما لحق بها من شوائب قاتمة، فليس من العقل أصلاً أن يؤمن أكثر من مليار إنسان بعقيدة وهي في الأصل "معادية" للإنسان! عقل لا يستوعب. ذلك لا يمنع القول أن بعض المسلمين قد أخذوا ما يعتقدون أنه إسلام الى حدود الإجرام، وهو أمر حدث ويحدث في كل الديانات السماوية وغير السماوية.
الهدف الثاني من الإضاءة على الموضوع وهو الأهم، تقرير ضرورة الاجتهاد في عصرنا والتحلي بالشجاعة في مناقشة ما يجب أن يكون. فكرة اللفيف "المحلفين" التي أُخذ بها في وقت ما في مجتمع إسلامي لضبط الأحكام هي فكرة اجتهادية في وقتها. بعد البحث تبين أن اللفيف، وهم جمع من أخلاط الناس، يُنتقون لمتابعة المحاكمة، ثم يتوصلوا الى قرار يأخذ به القاضي أو القضاة، وقد نُقلت الفكرة الى المجتمعات الغربية وطوّرت في قوانين عُدلت أكثر من مرة. هي تطوير في الفقه "لشهادة العدول"... الفكرة طُبقت في وقت ما في دول مستعمرة في الشرق ولكن بعد الاستقلال وُجد أنها غير ذات صلة فتم الاستغناء عنها، والشبكة العنكبوتية المتوافرة اليوم تقدم الكثير من المعلومات عن اللفيف. استحضارها اليوم يأخذنا الى أن ما نعاصره من تفسير فقهي، بعضه وبخاصة الخارج عن العقل والعصر هو عوار في الفهم يحمله شبه العوام وليس مثلبة في الأصول.
لقد قام بعض المتقدمين في عصور الانفتاح بمواءمة حاجات الناس والاجتهاد في ما يتعلق بمصالحهم، واستنباط آليات ليست بالضرورة لها سوابق. وذلك لم يكن جديداً في عصور الازدهار والتي سمحت فيها بفضاء تعانق العلم بالحرية، فكان الإثنان بمثابة الرافعة لتقدم المجتمع. اليوم وجزئياً بسبب اختفاء ذلك التعانق بين الحرية والعلم، انقسم المجتمع أو أهل النخبة على الأقل وتبعهم العامة الى قسمين، قسم في شكل عام يرى أن "الإسلام معوق" بكل تفاصيل هذه المدرسة وهو قول عام، وآخرون يرون أن الإسلام هو الحل، أيضاً بكل تفاصيل تلك المدرسة، مع ارتكاز الأخيرة على قول فقهاء في الغالب لهم أهواء سياسية وبعيدون عن المنهج العقلي! لذلك وجدنا مجموعات إجرامية منفصلة عن الواقع مثل "القاعدة" و"داعش" و"بوكو حرام" وأمثالها التي تلازم لديها الجهل وفقدان الحرية في التفكير، وتدّعي أن ما تقوم به من الإسلام! فنتج من ذلك الصورة القبيحة للإسلام وبالتالي المسلمين في انحاء العالم.
المحلفون أو ما يسمى اليوم "قضاة الواقع" فكرتها الأساس إقامة العدالة، لم يعترض عليها أحد في وقتها، ولكنها فكرة صائبة نقلها النظام القضائي الانغلوسكسوني من الثقافة القانونية الإسلامية، وهي ليست الأولى أو الأخيرة في مسيرة الاجتهاد الحضاري. كثر من القانونيين يعرفون اليوم أن بعض المبادئ القانونية في القانون الفرنسي "مدونة نابليون" تم نقلها ومن ثم تطويرها بعد الاطلاع عليها من خلال الاحتلال الفرنسي لمصر، وأصبحت جزءاً من المنظومة الفقهية الفرنسية. تبادل نقل الأفكار الإيجابية بين الحضارات حقيقة مسلم بها، فالاعتقاد أن حضارة ما تحمل كل الخير وأخرى تحمل كل الشر، خطأ منطقي وغير إنساني في الوقت نفسه.
فأين وجدت مصالح الناس وتحقق الخير والعدل ووجد السلام بين البشر ووجدت مبادئ الدين الكلية. معظم القوانين المطبقة اليوم في المجتمعات الإسلامية هي وضعية وبروح من المبادئ الإسلامية، أما ما يدور من أفكار متشددة، فهي محاولة لوضع المبادئ الإسلامية في قفص ضيق وتحت وصاية مجموعة صغيرة من الناس تريد أن تحقق مصالح سياسية تحت غطاء كثيف من خلط الحقائق بالخرافة، وتقديمها الى الناس على أنها الإسلام، مع الأسف هذه الممارسة التي اختطفت جماعات من المجتمعات الإسلامية ولوثتها في أعين الآخرين، على انها سبي النساء ولبس السواد وترويع الآمنين، الإسلام منها براء.
الاجتهاد العقلاني اليوم أصبح هدفاً وجب أن ينادي به كل العقلاء، حتى لا يستمر هذا الخلط المدمر، وبالضبط كما فعلت نخب المتقدمين والتي تحلت بالشجاعة الفكرية واحتكمت الى العلم والحرية وهي قاعدة تقدم الشعوب.
تعليقات