د.محمد الرميحي: مجتمعات تفتقد الدّهشة!
زاوية الكتابكتب د. محمد الرميحي نوفمبر 18, 2020, 10:07 م 754 مشاهدات 0
خبرٌ صغيرٌ بداية الشهر الجاري لم يلتفت إليه أحد إلا القليل. الخبر يقول: الحكم على لي ميونغ - باك، المواطن الكوري الجنوبي، بسبعة عشر عاماً سجناً، وقد حضرت الشرطة الى منزله واقتادته الى السجن في العاصمة الكورية الجنوبية سيول! من هو لي ميونغ - باك؟ هو رئيس الجمهورية الكورية الجنوبية بين عامي 2008 و2013، وهو مهندس النهضة الكورية التي من نجاحاتها أن المنظومة الصحية التي وضعها الرجل استطاعت أن تقلل وفيات جائحة كورونا الى أقل مستوى على النطاق العالمي.
لقد وقّع لي كتابه المعنون بالإنكليزية "الطريق غير المطروق" في لقاء معه نظمته الشيخة مي الخليفة في البحرين لإلقاء محاضرات حول تجربته. كان ذلك في 14 تشرين الثاني (نوفمبر) 2017 في المنامة، والكتاب تُرجم الى العربية بعنوان "الطريق الوعر". تاريخ الرجل يشدّ أي متابع، فهو من عائلة فقيرة قدم مع أسرته من اليابان بعد الحرب العالمية الثانية حيث كانت قد هُجّرت، وفي البحر فقد أحد إخوته. يصف صباه بأنه لم يكن لديه حتى قوت يومه. كانت والدته توقظه في الفجر من أجل أن يساعدها في بيع بعض المأكولات في القرية، وكانت تُطرد كلما وقفت أمام محل صغير. أكله كان زهيداً، فقط كمية من الأرز له ولأخته لا تتعدى القبضة الواحدة، ولما ذهب الى المدرسة لم يكن لديه ما يأكل فكان، كما قال، يملأ معدته بالماء، وحين قرر أن يذهب الى الجامعة، لم يكن لديه أي مبلغ لمصاريفها، فعمل جامع (قمامة) من منتصف الليل حتى الفجر، كي يجمع بعضاً من المال ليستطيع أن يذهب الى الجامعة، فقط لعام واحد لأن حظّه في التوظيف سيكون أفضل إن كان "ساقطاً سنة أولى في الجامعة" في بلد كان يعج بالانقلابات العسكرية.
واستطاع بعد تخرجه أن يحصل على وظيفة محاسب في أحد فروع شركة هيونداي الكورية، والتي ترقى فيها حتى أصبح بعد فترة رئيساً لها وبقي في إدارتها ثلاثين عاماً، وتطورت الشركة في عهده من شركة متوسطة القيمة الى شركة تتعاطي الكثير من الصناعات وزاحمت شركات عالمية، من بناء الجسور حتى بناء محطات الكهرباء الضخمة.
كثير من قصص الكتاب تروي السيرة الملحمية لتلك الشركة التي أصبحت عملاقة. وقرر بعد تركه العمل في هيونداي أن يمتهن السياسة، فأصبح محافظاً لمدينة سيول العاصمة التي كانت تمتلئ بمناطق البؤس والمياه الآسنة، واستطاع أن يطوّر تلك المدينة حتى أصبحت قادرة على استقبال الألعاب الأولمبية الصيفية عام 1988، وكانت ثاني دورة ألعاب أولمبية تُعقد في آسيا بعد دورة طوكيو صيف عام 1964، وأصبحت العاصمة الكورية الجنوبية مكاناً مفضلاً للسياح في العالم، كما هي مكان للصناعات المختلفة وأيضاً حاضنة للابتكار.
استوقفني نقله لحوار مع ميخائيل غورباتشوف، إذ قال له الأخير: لقد أعطينا كوريا الشمالية الغنية أيديولوجيتنا فأُفقرت وفضّلتم الحرية فاغتنيتم! كل هذه السيرة التي تحولت في وقت ما مسلسلاً تلفزيونياً شاهده ملايين من الكوريين، لم تشفع للرجل من أن يُتهم بـ"الفساد" ومن ثم يقدّم للمحاكمة بتهمة (التربح من المنصب) ثم يصدر ضده حكم ناجز بالسجن 17 عاماً، وإن أخذنا بسنّه (من مواليد 1941) فإنه في الغالب سوف يقضي نحبه وهو في السجن!
كل ذلك التاريخ من الإنجازات والنجاحات في كل من شركة هيونداي التي توظف ملايين الكوريين وتضيف مليارات الدولارات الى الناتج المحلي الكوري، إضافة الى النجاحات السياسية الكبرى التي حققها لبلده، لم تشفع له في النظام القانوني الكوري ليحصل على "عفو" سياسي أو حتى تخفيف العقوبة. الدّرس هنا واضح بالمقارنة، فإن النجاح الذي تحققه المجتمعات في عصرنا هو في الأساس نجاح قاطع في محاربة الفساد أياً كان شكله ومن أي شخص أو فئة. لم يندهش أحد من الشعب الكوري الجنوبي باقتياد رجل بتلك النجاحات الى السجن، بل أكثر من ذلك، فإن المسؤولين الكوريين الجنوبيين يشعرون بالخجل من تلك الحادثة إن سألت أحدهم عنها. لا يستطيع أحد أن يحسب ذلك النجاح الاجتماعي\ الاقتصادي في كوريا الجنوبية على البوذية مثلاً التي يعتنقها ثلت السكان، أو المسيحية التي يعتنقها ربع السكان، أو على الـ150 ألفاً من الكوريين الجنوبيين المسلمين، فدستور كوريا الجنوبية خال من الانتماء الى ديانة، هو دستور حديث يقرر قواعد حديثة للمجتمع ويبعد السياسة والإدارة عن المذاهب والأديان. ولم تكن كوريا على هذه الشاكلة حتى نصف قرن مضى تقريباً، لكن شعبها قرر أن الطريق الصحيح الى النهوض هو في صوغ قوانين حديثة والالتزام بها التزاماً قطعياً، حتى لو أدى ذلك الى أن يدخل رجل حتى فترة أخيرة كان يشكل شخصية بطل قومي، وهو في هذه السنّ المتقدمة، الى سجن يعرف الجميع أنه لن يخرج منه!
تُرى هل لنا دروس في هذه القصة؟ وهل سنُصاب بالدهشة إن دخل أي من السياسيين العرب السجن بسبب "التربّح من المنصب"، وكم سيكون عدد من يدافع عنهم كونهم (ملائكة) لو تم ذلك!
تعليقات