عبدالله يعقوب بشارة: قابوس بن سعيد وإبداع السلاطين
زاوية الكتابكتب عبدالله بشاره يناير 22, 2020, 10:20 م 866 مشاهدات 0
جاء السلطان قابوس بن سعيد إلى الحكم في نوفمبر 1970، في بلد تمزقه حرب داخلية بين الساعين لتقسيم الدولة إلى جزء للإمام في الداخل، والآخر للسلطان على السواحل، في انقسام وصلت ملفاته إلى القمة العربية في يناير 1964 بطلب من الإمام للدعم والمؤازرة، مع تسريبات السلاح من مخابرات مصرية جاءت في مذكرات فتحي الديب، مسؤول الشؤون العربية، ويواجه السلطان الجديد الموقف بحزم معتمداً على إسهام تاريخي لأسرة شيدت امبراطورية عمان من ساحل أفريقيا غرباً، وجوادر شرقاً بتراث تتداخل فيه فنون الشرق وانضباط الغرب، فكانت أولوياته وحدة التراب ثم الانفتاح التنموي، مدركاً بأن تحقيق هذين الهدفين يتطلب قيادة مستنيرة بمصداقية ثابتة وبترابط مؤثر مع الداعمين، فكانت بريطانيا أبرزهم.. لم يترك البؤساء من الحكم الماركسي في اليمن الجنوبي شعب السلطنة يتفرغ للبناء، وإنما شنوا حروب عصابات التخريب لإضعاف الحكم وإشغاله عن البناء، بدعم من حكومة اليمن الجنوبي. نجح السلطان في القضاء على جميع خصوم السلاح من الداخل والخارج، وانضم إلى الأسرة العالمية في الأمم المتحدة بترحيب دافئ كنت شريكاً فيه. رأيت جلالة السلطان للمرة الأولى في القمة التي وقعت وثيقة قيام مجلس التعاون في مايو 1981، في تلك القمة طرحت السلطنة تدخلات اليمن الجنوبي وعبثياته على الحدود، في مذكرة تدعو للتعاون الأمني لكي يتفرغ لبيئة التنمية، ومن تلك المذكرة ذهبت أول بعثة عسكرية من مجلس التعاون إلى السلطنة وتفحصت الوضع، وكانت فقرة تحول في مسار مجلس التعاون، وانتهى الشغب الجنوبي أمام التكتل الخليجي. ومع مرحلة التأسيس للمجلس ترددت على مسقط، ملتقياً السلطان في عدة مناسبات أتاحت لي الاقتراب منه انساناً، وأعجبني النظام الذي فرضه ليس بالقوانين وإنما بالقدوة التي امتثل لها الجميع. وخصني صاحب الجلالة بدعوتي للمشاركة في عدة مناسبات وطنية كنت ألتزم بها.. كان السلطان دارساً للتاريخ، مستوعباً عبره، مبتعداً عن المخاطر، محصناً وطنه من السير قرب المطبات، ومتعظاً من تفحص حياة قيادات دمرها الطموح، كان يتحدث عن الفلك والنجوم، وعن غموض مسار الكواكب، ونحن نستمع بإعجاب عن المثابرة والهمة التي سخرها ليأخذ عمان إلى عالم الانفتاح، كان مقدراً لمعاني الموسيقى في الالهام، يستمع بإصغاء، ومن هذا الوعي تشكلت فرقة السلطان السيمفونية، ودار الأوبرا، ومن سحر الموسيقى تحولت مسقط إلى واحة زراعة.. امتلك السلطان العناصر المهمة في رسم حياته، تموجات تاريخ عمان وتراث المؤسسين ونهجهم مع الجيران، كانت الشجاعة وقودهم والسخاء نهجهم، وكان وفياً لهما، كانت عفة اللسان حصناً للاحترام وتأميناً للمقام وقد التزم بها.. أخبرني مرة بأن الملك حسين أبلغه بأنني، كأمين عام لمجلس التعاون، رافض للتفاهم مع الأمين العام لمجلس التعاون العربي، متهرب من الاجتماع به، قالها وهو يضحك خجلاً، فنفيت ذلك.. التزم الدقة في التعبير وفي تحمل المسؤولية.. كان قرار قمة الدوحة عام 1991 إسناد مسؤولية دراسة قوة خليجية موحدة للسلطان قابوس، على أن تتم خلال عام، وتقبل المهمة وفق قواعد العمل التي يلتزم بها، فاستعان بأهل الخبرة، فضلاً عن مرئياته من تجاربه، وقدم تقريراً مفصلاً لفريق العمل المشارك، كنت مشاركاً في ثلاثة اجتماعات عقدها الفريق، بحضور السلطان، وتدارس القادة تلك التوصيات التي صارت قاعدة التعاون في المسؤولية الجماعية للأعضاء للحفاظ على الأمن والاستقرار.. كنت ألاحظ تعامل السلطان مع مساعديه من مدنيين وعسكريين، لا تخطئ العين وفاءه لمن يعطي ولمن يقدر المسؤولية ويتقبل أثقالها، فيكرم القادر ويثني على المجتهد، ويعاقب برأفة، يعرف من اختلس ومن خان الأمانة ومن لا يستحق الثقة، فكانت الأحكام مطعمة بالعطف والرأفة، فيخرج بعد فترة بالعفو العام. كان السلطان واعياً لمكانته في التاريخ الوطني، محافظاً على هيبته، مبتعداً عن مناسبات توجد فيها زعامات عربية من أصحاب الألسن، فالمقام العالي لا يكترث بصحبة المشاغبين. رأيته محاطاً بأبناء الشعب من مختلف القرى، متنقلاً بين أهلها، متبسطاً في حواراته، ساعياً لتقبل طلباتهم، ومجدداً العهد لاستمرار هذا المحفل السنوي، والحق أنه يتوهج في هذه اللقاءات، فهي واحات فيها المودة وتأكيد المبايعة، فيغرف السلطان من منابعها العزم للتواصل لنجاح أكبر.. ذهبت إليه في رحلة التوديع، في مخيم صحراوي، في الحقيقة لم أتوقع المقابلة لبعده عن العاصمة، وبتعليمات منه ذهبت بصحبة السيد يوسف بن علوي الوزير المسؤول عن الشؤون الخارجية، إلى تلك المنطقة، دخلت عليه في خيمة واسعة، تحدثنا عن المجلس وأهميته للدول وضروراته لتحديات المستقبل.. وقدم لي عباءة من صوف الجمال تحد من برد الصحراء.. التزم مجلس التعاون بمراعاة قدرة كل بلد على تنفيذ القرارات في هضم الواجبات، كانت ظروف السلطنة تفرض المسايرة بالتأني، وفق إيقاع يناسب الجميع، وارتاح السلطان من هذا التوجه، الذي حرص عليه الملك فهد بأن نراعي توازن المسيرة، كما ارتاح لاحترام المجلس لعناصر السيادة والابتعاد عن الشأن الداخلي. كانت تجربة مجلس التعاون الأولى في جمع ست دول مستقلة في إطار تعاوني فيه انفتاح تام في الانسياب البشري وفي ممارسة التجارة وحقوق المواطنة، وفوق ذلك التداخل الأمني والعسكري، لهذا كان التحفظ في بداية المسيرة طبيعياً، انتظاراً لمعرفة هوية المجلس وحدود الممارسة، وكان السلطان قابوس واعياً ومتابعاً وكان واجبي التأكيد على احترام الهوية الوطنية بكل جوانبها.. فالسلطان حريص على الابتعاد عن التدخلات، منشغل بقضايا شعبه وتعميق الترابط بين طوائفه، ولذلك كانت زياراته الصحراوية وجلساته في القرى تتميز بالحميمية والمجاهرة بتبادلية المودة والاحترام.. كان السلطان قابوس نموذجاً للتعبير عن أبهة السلطنة، في مفرداته وفي ممشاه وفي مظهره وفي فرض خريطة الانضباط الشعبي العام، وتحول هذا الأسلوب إلى التزام شعبي، كنت أودعه في الخيمة الصحراوية حيث يجلس الزوار على الركبة، لكنني جلست كالمعتاد، فجاءني النقد ممن شاهد المقابلة. رحم الله السلطان قابوس، كان حاكماً ووالداً وموجهاً واختار خليفته بقناعة.. نترحم على سلطان استوطن التاريخ، وندعو بالتوفيق لخليفته السلطان هيثم، متبعاً خطى ذلك العملاق المتوهج.. وكل نفس ذائقة الموت.
تعليقات