#جريدة_الآن محمد الرميحي يكتب : شجاعة امرأة والحاجة إلى عدم التقاعس

زاوية الكتاب

كتب د. محمد الرميحي 633 مشاهدات 0



الشرق الأوسط

هل التعصب ضد الآخر موجة تضرب البشرية بين فترة وأخرى، أم هي الطبيعة البشرية الثانية، التي جزء منها أن الناس أعداء ما جهلوا أو خافوا، أم أن التسامح وقبول الآخر هو الطبيعة الحقيقية للجنس البشري، ومساحته تتوسع في عقول البشر، متى ما تقدمت معرفتهم بشكل عام، ومعرفتهم بالآخر المختلف على وجه الخصوص؟ ليس ما تقدم من باب التنظير، ولكنه يمس حياتنا اليوم بشكل مباشر، ونجد حولنا مظاهر التعصب، ونعجب منها، ونحن في القرن الحادي والعشرين، رغم كل هذا التقدم التقني والتواصل العولمي. كلتا الموجتين (التعصب والتسامح) تلاقي كثيراً من الأنصار، خاصة إن غوزلت الغرائز التي نشرتها مجتمعات الثورة السيبرانية الجديدة؛ حيث يتعامل الفرد مع الآخر الافتراضي، وليس المحسوس. كما صاحب ذلك تكسبٌ سياسيٌ فجّر الظاهرة.
أردت أن أبحث بشيء من العمق عن أسباب ودوافع سيدة اسمها جاسيندا أرديرن، هي رئيسة وزراء نيوزيلندا. لماذا تذهب عبر كل ذلك الطريق لتبدي مواساتها لشهداء مسجدي مدينة «كنيسة المسيح»، وهو الترجمة العربية لاسم تلك المدينة. هل ذلك بسبب تكوين شخصي في حياة تلك السيدة، أم هو تماثل مع ثقافة سائدة في ذلك المجتمع القصيّ عن العالم، الذي يسمى نيوزيلندا؟ في الوقت الذي تضرب قلب أوروبا موجة من التعصب ضد الآخر المختلف، وخاصة المسلمين، مع خلط في المفاهيم بين «الإسلام والمسلمين» ينتشر في المجتمعات الغربية، إلى درجة تصل إلى إدانة مطلقة لدين سماوي! في بلاد مثل إيطاليا وبولندا وبلغاريا حتى فرنسا وألمانيا وبريطانيا، فلا تكاد دولة أوروبية تخلو من مجموعات متطرفة مضادة للآخر عموماً، وللمسلمين على وجه الخصوص. هل نيوزيلندا هي الاستثناء، أم هي القاعدة التي شذّ عنها الباقي من الحضارة الغربية الحديثة؟ وهل هذا الشذوذ مؤقت أم شبه دائم؟ الغريب في الأمر أن بعض تلك الدول الأوروبية مؤخراً (نسبياً) كانت إمبراطوريات، ومن المفروض وهي بتلك الصفة أن تحوي بينها أعراقاً وثقافات مختلفة، وعلى مرّ القرون كان الأكثر احتمالاً أن تكون قد غاصت في قبول ثقافة الآخر، لأنها عرفته، لا نفيه وتهميشه، بل شيطنته! ذلك افتراض يقوم على نفيه كثير من الشواهد، لأن التاريخ الاستعماري الطويل نظر إلى الشعوب الأخرى على أنها متخلفة، وأطرف ما حصل، وهو متأخر نسبياً، ما حدث خلال احتلال الولايات المتحدة للفليبين بداية القرن العشرين، إذ توجه علماء الأنثروبولوجيا لدراسة ما إذا كان الشعب الفليبيني من البشر أم قريباً إلى الحيوان! وانتهت الدراسة إلى أنه خليط منهما!! وكان ذلك أيضاً بين الأوروبيين أنفسهم، ففي الحرب العالمية الثانية (أي منذ وقت قريب) ساق النازيون آلافاً مؤلفة من اليهود والغجر إلى معسكرات الاعتقال، ومن ثم بعضهم إلى المحارق، واستيقظ العالم بعد الحرب على تلك الأفعال، إلى درجة أنه حُرّم في كثير من شرائع الدول الغربية تحقير السامية أو الإساءة إليها، إلا أن لغة التحقير سرعان ما انقلبت إلى مجاميع أخرى، فصارت إلى السود، ثم تحولت إلى المسلمين دون تروٍ أو فصل بين الإسلام ديناً وبعض تصرفات المسلمين بشراً، التي يمكن أن يتصرف بها أي منتمٍ لأي دين! أصبحت تلك المواقف (تهميش الآخر المسلم واتهامه) في أوروبا وشمال أميركا مواقف سياسية مقبولة، بل أصبحت جاذبة للأصوات في الانتخابات، حتى غدت لكثير من السياسيين في الغرب «مسلمة» وبطاقة مرور للتسيد السياسي، وأطلقت تهديداً استراتيجياً لمبادئ جاهدت الحضارة الإنسانية على ترسيخها، وهي أن البشر سواسية، وأصبح شعار «إزالة الكباب» - أي منع الإسلام من غزو أوروبا - مصطلحاً شائعاً يجري تداوله على الإنترنت المظلم، ويكاد يتحول إلى عقيدة بدلاً من عاطفة. وحمل المجتمع الغربي المعاصر في أغلبه «ثنائية» غير مبررة منطقياً؛ حرب شعواء قانونية وأخلاقية لمن ينتقد السامية (وذلك حق) مع ترخُص شديد المرونة وبشيء من التفاخر بذم الإسلام، وليس فقط المسلمين على عمومهم (وذلك باطل). هنا تبرز ظاهرة جاسيندا أرديرن، التي التفت بملابس وتلفظت ببسملة هي من تراث الضحايا، وأتاحت للعالم أن يشهد التسامح بأنقى ما يمكن أن يكونه، لقد دقّ بقتل 50 من المصلين جرس إنذار شديد الدوي، يستبطن تهديداً استراتيجياً لحضارة إنسانية، وليس تصرفاً أعمى من متعصب. هل هي مخالفة لذلك التيار الجارف الذي يصرح بالانتماء إليه دون تردد كبار السياسيين الغربيين؟ هل هي شجاعتها الشخصية، أم أن هناك «كنزاً ثميناً في الحضارة الغربية ومعادياً لأي تعصب، وهي فقط قد أزاحت تراب التكسب السياسي عنه كي يراه العالم»؟ هل في المجتمع النيوزيلندي شيء مختلف عن المجتمع الغربي، وهو ذو أغلبية (75 في المائة) من أصول أوروبية! و15 في المائة من السكان المحليين (الماورية)؟ فهل هؤلاء جميعاً مختلفون عن الثقافة الأوروبية التي تُسوق فيها بكثافة ثقافة الكراهية (طبعاً عند بعضهم)، أم هي ثقافة الجزر التي عادة ما يكون أهلها أكثر تسامحاً، بسبب العزلة الجغرافية، كونهم مكان استقطاب لهجرات تأتي من شواطئ البحر المفتوحة، أم بسبب التركيب السياسي لنيوزيلندا وتطوره؟ فهي بلد لها آلية سياسية مختلفة، (فرئيسة الوزراء أيضاً رئيسة البرلمان). المؤكد أن صفات أرديرن الشخصية لافتة، فهي من مواليد 1980، وثاني أصغر امرأة رئيسة وزراء، وتفتحت سياسياً على مضامين القرن الحادي والعشرين المعولمة، متعلمة بشكل جيد، وذات منحى إنساني، عملت في مكتب توني بلير (رئيس وزراء بريطانيا) مستشارةً لفترة، كما عملت متطوعة في أحد المطاعم التي تقدم الأكل للفقراء في مدينة نيويورك، ووالدها شرطي، وأمها مساعدة في مطعم إحدى المدارس. من الواضح أن تلك النشأة المتواضعة، واختيارها لحزب العمل الاشتراكي، قد شكلا بعض صفاتها الشخصية، إلا أنه من المؤكد أيضاً أن الجو السياسي العام في نيوزيلندا، متحرر من ضغوط الكراهية، التي ربما هي نابعة من تعصب عرقي في بقية الغرب، أو ضغوط اقتصادية تُنفس عن ذلك الطريق. جزء من تصاعد الكراهية في الغرب هو ميل السياسيين لما يعرف اليوم بالشعبوية، ولها مظهران؛ الأول تغذية فكرة التفوق الأبيض، التي ماتت نظرياتها منذ زمن، والثاني لوم الآخر الغريب على التردي الاقتصادي المشاهد. ومن أجل كسب الأصوات لا بأس من نبش تاريخ الكراهية لكل ما هو غير مماثل، (ويشبهنا) هذه التوجه في آليات الديمقراطيات الغربية، ويتنبأ البعض بأنه أول طريق موت الليبرالية الديمقراطية، وأيضاً لاضمحلال إدارة التوافق العالمي، كما عرفت في السابق. إشارات التضامن التي أظهرتها جاسيندا أرديرن واجب البناء عليها، من خلال نقد أنفسنا، والاعتراف أن العالم الإسلامي بسبب ظروف التحول العميقة، في صراع بين أقلية متشددة، ترى أن ما تفهمه من الإسلام هو الصحيح، وعلى رأسه «حرب الآخر»، وأغلبية ترى أن مبادئ الإسلام وممارساته هي الحكمة والتصالح مع الآخر. الفرق أن الأقلية نشطة، والأغلبية ساكنة، قصور الأغلبية عن النشاط، خاصة الفكري، ومقارعة التشدد، يجلب التعميم السلبي للمسلمين، فالصراع على الهوية والدور والموقع والرسالة في قطاع واسع من المجتمعات الإسلامية، يسمع سلباً في بعض الأماكن، ويدفع أغلب المسلمين تكاليفه السلبية الباهظة، وجزء من العلاج هو استنباط مصفوفة فقهية، تعرف الإسلام، وتعرف كيف توائم مصالح المسلمين مع العصر. التكسب السياسي السريع الذي ظهر من بعض القيادات في دول مسلمة، بالجهر بالثأر واللعب بالغرائز، يصب في مصلحة التطرف، فالكراهية هي ملاذ المتطرفين. ما هو مؤكد أن التاريخ الإنساني لم يستمر ويتطور إلى الأفضل إلا بسبب التسامح والتعلم من الآخر. الكراهية أفرزت أسوأ ما في البشر. أما أفضل ما فيهم فقد كان التسامح والقبول والتعاون على الخير، ونصوص الأديان والخبرة الإنسانية الطويلة قد حثّت على ذلك.
آخر الكلام:
ترى متى سوف تبشرنا أم عربية أو أب بأن ابنتهما التي ولدت مؤخراً قد سُميت باسم جاسيندا؟!

تعليقات

اكتب تعليقك