تقرير ... سيرة جورج بوش الأب
عربي و دوليالآن - وكالات ديسمبر 7, 2018, 3:12 م 664 مشاهدات 0
لم يكتفِ الأميركيون بإعلان الحداد بعد وفاة بوش الأب بل امتد حدادهم ليشمل اختفاء حقبة سياسية سادت في الماضي.
فالرئيس السابق جورج هيربرت ووكر بوش كان آخر رئيس في جيل أمريكي مختلف، إذ كان معتدلاً في الداخل الأمريكي بعدما تعهد بصدق في عام ١٩٨٨ بجعل بلاده أكثر لطفاً ورقة، كما كان براغماتياً وهو يراقب بحذر صعود الأصوليين الأيديولوجيين في الحزب الجمهوري الذين قدسوا تخفيض الضرائب وشيطنة الحكومة.
وبالنسبة لكثيرين، مثلت وفاة بوش نهاية عصر كان في الحقيقة قد وصل إلى نهايته قبل ربع قرنٍ مضى، وبالضبط في مطلع التسعينيات مع تحول جيلي عن السياسيين من أمثال جورج بوش الذي شارك في الحرب العالمية الثانية وجرى اختباره في ساحة القتال إلى أولئك الذين ولدوا إبان فترة الارتفاع العالي في معدل المواليد التي أعقبت سنوات ما بعد الحرب، من أمثال بيل كلينتون والسيناتور نوت غينغرتش، الذين قضوا سنوات نشأتهم في إضرام نار معارك ثقافية في سنوات الستينيات وكانت سياساتهم أكثر حزبيةً.
وعلى غرار هاري ترومان، وهو رئيس آخر ذو سياسات خارجية عظيمة لم يحظ بالتقدير الكافي في عصره، يقدم بوش نموذجاً بارزاً على تطور سمعة الرئيس على مدار السنوات الماضية وكيف يُعاد تقييم الإرث، وكيف أن خصالا قد توصف في الحاضر بالضعف يمكن أن تراها الأجيال المستقبلية فضائل ومزايا.
فالأجيال بالتأكيد أكثر كرماً من واضعي عناوين الأخبار الذين سخروا منه باعتباره ضعيفاً وشخصا غير ذي قيمة، وقد جاء في وضعٍ غريب بين شخصيتين أكثر أهمية هما دونالد ريغان وبيل كلينتون.
ولكن بوش بأسلوبه الأقل ميلاً للاستعراض كان أيضاً سياسياً محدداً لمعالم عصره الذي لم يدم طويلاً، ومع ذلك فقد تبين أنها كانت سنوات عز الهيمنة الأميركية التي لم يكن لها نظير.
وكي لا نقع في فخ المغالاة، وهي نزعة عصرية في عالم يُنعى فيه عظماء السياسة على نحوٍ متزايد، من المستحسن تسليط الضوء على محطات أخفق فيها بوش.
فعندما كان يخوض معركة الرئاسة في ١٩٨٨، سلك طريقاً سيئة إذ شكك في وطنية منافسه الديمقراطي، مايك دوكاكيس، لاجئاً إلى تأجيج المخاوف العرقية.
ولم تكن حملة بوش الانتخابية هي من قامت بتصميم إعلان Willie Horton سيء الصيت بل كان وراءه لجنة حراك سياسي مؤيدة لبوش، الا أنه بُث على التلفزيون لمدة ٢٥ يوماً قبل أن يدينه المرشح الرئاسي.
وقال رئيس الحملة الانتخابية لبوش، لي أتواتر، معلقاً على الهدف من تصوير دوكاكيس كليبرالي نخبوي متهاون مع الجرائم: "إذا كان من الممكن ان أجعل Willie Horton شخصية معروفة، فسنكسب الانتخابات"، ومن البديهي أن يكون قد قال ما قاله بمباركة من مرشحه.
أما الرسالة المهذبة التي كتبها بوش لبيل كلينتون في يوم تنصيبه في يناير / كانون الثاني عام ١٩٩٣ وقال فيها: "إن نجاحك نجاح للوطن" فهي تحتاج أيضا إلى أن توضع في سياقها، فبوش لم يعتقد أن كلينتون يمتلك من المقومات الشخصية ما يؤهله ليصبح رئيساً، وفي يومياته سجل ردة فعله إزاء جندي رفع إبهامه له خلال حفل التنصيب، فكتب يقول:" يجب أن أذكر أنني قلت لنفسي: كيف بحق السماء يمكن لهذه البلاد أن تنتخب هذا الشخص الذي تهرب من الخدمة العسكرية الإلزامية؟".
وقبيل انتخابات عام ١٩٩٢، كان بوش، ذلك الطيار البحري السابق الذي أطلق عليه اليابانيون النار فوق المحيط، يستهين بمنافسه الأصغر سناً الذي لم يخدم في حرب فيتنام ولم يرتدِ قط زياً عسكرياً حتى أنه قال بالحرف الواحد :" الشعب الأميركي لن ينتخب أبداً شخصا مثل بيل كلينتون"
وعندما كان في منافسة على مقعد مجلس الشيوخ في تكساس عام ١٩٦٤، عارض بوش، الشاب آنذاك، قانون الحقوق المدنية الذي يُنهي الفصل العنصري في الجنوب كما سخر من مارتن لوثر كينغ واصفاً إياه بـ "العسكري".
ولكن حتى بالعودة سنوات للوراء حتى منتصف الستينيات عندما بدأ محور الحزب الجمهوري ينتقل من وول ستريت الى ولاياتOld Confederacy وجنوب غربي Sun Belt، عبر بوش عن قلقه إزاء التطرف المتنامي لحركة المحافظين.
وقال في أعقاب هزيمته في عام ١٩٦٤ :"عندما تصبح كلمة "اعتدال" غير مرغوب بها علينا أن نقوم ببعض البحث الروحي، أريد أن تكون المحافَظَة حساسة وديناميكية وليست مقدسة أو رجعية".
وبحلول عام ١٩٨٨، عندما فاز بترشيح حزبه له لمنصب الرئيس متغلباً على المزيد من المنافسين اليمينيين تحولت كلمتا "حساس وديناميكي" إلى "ألطف وأرق".
وقد حاول دونالد ترمب في الآونة الأخيرة تقليد خطاب "الألف نقطة ضوء" الشهير لبوش فسأل الحاضرين: "ما الذي جرى؟" ولكن بالنسبة لبوش كانت هذه الكلمات تحدد علامة مميزة وكانت في جزءٍ منها تصحيحاً لتجاوزات"الجشع جيد" في سنوات إدارة ريغين، وفي جزءٍ آخر منها كانت تعبيرا عن الالتزام بالنبل الذي تشربه كابن للأرستقراطية الأميركية وربما أيضاً تعبيرا منه عن فجيعته كأب بفقدان ابنته المحبوبة روبن بعد إصابتها سرطان الدم عندما كانت في الثالثة من العمر.
وللمفارقة، لا أحد أفضل من بوش يجسد إعادة التكيف الجغرافي للحزب الجمهوري فهو سليل عائلة مصرفية وابن سيناتور أرستقراطي أصبح تاجر نفط وسياسيا.
تعليقات