د.محمد الرميحي يكتب عن كيفيه تطوير المجتمعات والوصول الي نجاعة الحوكمة .
زاوية الكتابالشرق الاوسط
ترك لنا التراث السياسي الاجتماعي الأوروبي على مدى القرون الثلاثة، من الثامن عشر وحتى العشرين، ثلاث مساحات تحركت فيها تدريجياً الإجابات المختلفة عن سؤال مركزي طُرح بقوة بعد عصور الظلام: «كيف يمكن تطوير المجتمعات وتحديثها والوصول إلى نجاعة الحوكمة؟»... الأولى هي «الفاشية» من القمصان السود إلى الصليب المعقوف، والثانية هي الشيوعية «المنجل والمطرقة»، والثالثة هي الليبرالية الديمقراطية. الأولى لم تعش بعد الحرب الثانية،
فقد غاصت في تناقضاتها وحروبها حتى اندثرت، ولم يبقَ من آثارها إلا في أماكن بعيدة في العالم الثالث على شكل أحزاب منطوية على العرق، والثانية استمرت في مساقها إلى - تقريباً - نهاية القرن العشرين
كما تجلت في الاتحاد السوفياتي، وسريعاً - نسبياً - فقدت دفعها الآيديولوجي، وتلونت في الصين بثوب اشتراكي وبروح رأسمالية، فتحولت بدلة ماو تسي تونغ الرمادية إلى بدلات حديثة للقادة الجدد، وتحول الاقتصاد الصيني إلى شركات عابرة للقارات، كمثل شركة «علي بابا» الصينية العملاقة والمسجلة في بورصة نيويورك! وبقيت الليبرالية الديمقراطية ببريقها المشع تارة، والخافت تارة أخرى، تغري كثيرين، إلى حد أن القناعة بما قاله المفكر فوكوياما إنها نهاية التاريخ! وإن هذا النظام هو أفضل ما أنتجه العقل البشري لترتيب الحكم، أي المدرسة الثالثة (الليبرالية الديمقراطية) التي سوف تسود.
لم يدم طويلاً ذلك الاعتقاد وبدأ يظهر فيه العوار في أكثر من جانب. الأسبوع الماضي قد يكون العالم قد فوجئ بحرائق في شوارع باريس، ونهب لأكبر مخازنها الفاخرة، وأصبح شارع الشانزليزيه المشهور، وبسبب حركة السترات الصفراء، وكأنه ساحة حرب ضروس، ولم تعد صناديق الانتخاب التي حملت إيمانويل ماكرون قبل عام ونصف العام بأغلبية مشهودة، تخطت 65 في المائة إلى الحكم، هي المرجعية.. أصبحت المرجعية هي تلك المظاهرات التي عمّت مدناً كثيرة في فرنسا، وجعلت كثيرين يعيدون التفكير في آلية الليبرالية الديمقراطية، إلى درجة الفعل الرمزي، حيث قام المتظاهرون ببناء جدار أمام باب البرلمان!
على مقلب آخر، تواجه تلك الآلية في بلد مثل بريطانيا أزمة مستحكمة، فقد قرر السيد ديفيد كاميرون، رئيس وزراء بريطانيا السابق، أن يغري الناخب الإنجليزي عشية انتخابات عام 2015، وقد كان حكمه بالمشاركة الائتلافية مع حزب الأحرار، فوعد الناخب البريطاني، إن نجح في الانتخابات أن يتيح للمواطنين «استفتاء» على بقاء بلاده أو خروجها من الاتحاد الأوروبي. وقد حصل كاميرون في تلك الانتخابات، وجزئياً بسبب ذلك الوعد، على أغلبية مريحة لم تكن متوقعة، ودخل بعدها في مفاوضات مع الاتحاد الأوروبي، حصل على جزء من التنازلات، على أمل أن يحقق نجاحاً في الاستفتاء الموعود على البقاء، كما حصل قبل ذلك على استفتاء بقاء اسكوتلندا في إطار المملكة المتحدة الذي نجح كاميرون في تحقيقه.
ذلك لم يتم، وقرر الناخب البريطاني أن يخرج من التجمع الأوروبي من خلال الاستفتاء صيف 2016 بأغلبية ضئيلة. لم يتطابق حساب الحقل على حساب البيدر عند السيد كاميرون، وقد كان ذلك كافياً لخروجه إلى التقاعد السياسي، وترك الأمر إلى السيدة تيريزا ماي، رئيسة الوزراء الجديدة، التي دخلت في معترك منذ يوليو (تموز) 2016 (تاريخ تسلمها للحكومة) إلى اليوم، والدوامة لم تنتهِ؛ فقد وصلت بعد جهد إلى اتفاق مع الأوروبيين، يرفضه غالبية نواب البرلمان البريطاني، بما فيها شريحة كبيرة من حزبها، والحكومة البريطانية اليوم على مشارف، إما الاستقالة أو تنظيم انتخابات جديدة أو الخروج من الاتحاد الأوروبي من دون اتفاق، وجميع تلك الاحتمالات تسبب صداعاً مقيماً للمواطن البريطاني، عدا الخسائر المتوقعة في الاقتصاد.
الإشكالية الأهم أن «صناديق الانتخاب» لم تعد هي المحققة للمصالح العامة للمجتمعات، فكثير من المختصين يعتقدون أن خروج بريطانيا من الاتحاد، سوف يكلفها الكثير من فقدان المصالح الحقيقية، ويعرّض اقتصادها لخلل هيكلي بالغ، وربما يقذفها إلى درجات العالم الثالث في بعض مساقاته! أي أن تلك الآلية (الديمقراطية الليبرالية) ببعدها الاجتماعي الإنساني العولمي، تفقد بريقها بسبب تحولها إلى «شعوبية» ترضي الجمهور، وتفرّط في المصالح العليا في الوقت نفسه. إرضاء الجمهور هنا له وجه آخر، هو بقاء السياسيين على كراسيهم، في مقابل التضحية بالمستقبل الوطني، وهجر مبادئ الديمقراطية الليبرالية في قبول الآخر، واحترام حقوق الإنسان، وحق الانتقال والعمل.
في مكان آخر يرى جوزيبي كونتي، رئيس وزراء إيطاليا، أن المثال البريطاني يمكن أن يحتذى، فهو يقاوم بعض القرارات المركزية التي تتخذ في بروكسل عاصمة الاتحاد الأوروبي؛ لأنها تحدّ من سقف انكشاف الميزانية الإيطالية، وهو مع حلفائه، يرغبون في «إرضاء الجمهور على حساب التعافي الاقتصادي طويل المدى في إيطاليا». من جديد نرى أن آلية الليبرالية الديمقراطية تعمل ضد أفكارها المثالية التي ارتضاها مصممو تلك الآلية، في المجر تتفجر القضية بشكل أكبر؛
فالمجر في وقت ما قديم في التاريخ خضعت، بعد حرب قاسية للدولة العثمانية، في معركة موهاتش، في الثلث الأول من القرن السادس عشر، حتى سقطت مملكة المجر، وغدت تلك المعركة يضرَب بها المثل المجري عند التعرض للحظ العاثر بالقول «أسوأ مما تم في موهاتش»! فيكتور أوريان، رئيس الوزراء المجري، يقول علناً عن الهجرة العابرة من خلال بلده إن «المجر تتعرض لغزو إسلامي»! استخدم كلمة «غزو» لتوصيف المرور فقط وليس الإقامة! من أجل جذب أصوات الناخبين الذين أعادوا انتخاب حزبه للمرة الثالثة في أبريل (نيسان) 2018! ونما في المجر شعور محلي يرفض الآخر، حتى ظهرت شعارات ضد السامية، كما احتجت كرسيينا منبور، مذيعة «سي إن إن» على وزير خارجية المجر في مقابلة بثتها مؤخراً!
واضح أن الاستبشار الذي عمّ كثيراً من المفكرين في الربع الأخير من القرن العشرين بوصول الليبرالية الجديدة إلى مرافئها الأخيرة والدافئة، وهي الداعية إلى عدالة اجتماعية، وحقوق إنسان، ومساواة بين البشر، وانتقال حر للبشر ورأس المال، قد فقدت محركات دفعها، وبدأت القوى السياسية الغربية تضغط على أزرار الخوف من الآخر، وتبدي مساوئ العولمة الشريرة وتتوجه إلى الانكفاء وراء ما يسمى «الديمقراطية غير الليبرالية»، التي هي صناديق انتخاب
لكن مفرغة من المحتويين الاجتماعي والإنساني، واعتبار اقتصاد السوق ليس لتعزيز الديناميكية والكفاءة والازدهار والحرية لكل ألوان البشر، بل في الأساس لتعزيز سلطة الدولة القومية، ويشهد العالم ارتباطاً وثيقاً بين السوق والدولة، وتضيق الفواصل بين الإدارة السياسية واستقلالية القضاء، وتضغط الدول القوية على غيرها ذات الموارد الطبيعية من أجل خفض أسعارها لصالح المستهلك القومي، ذلك التوجه المتصاعد يدفع العلاقات الدولية إلى الكثير من التشنج وإلى النسيج الاجتماعي في داخل الدولة للاضطراب والخلل، كما تم في إسبانيا وأخيراً فرنسا، وليس بعيداً أن يدخل العالم في أزمة اقتصادية كبرى قد يكون من مقدماتها إشعال الحروب.
أخر الكلام:
قد تصلح الليبرالية لتنظيم العيش دون ديمقراطية الصناديق، لكن ديمقراطية الصناديق دون ليبرالية إنسانية، تأخذ البشرية إلى المجهول!
تعليقات