أزمة "النقاب" والخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي - يكتب د. محمد الرميحي
زاوية الكتابكتب د. محمد الرميحي أغسطس 18, 2018, 4:59 م 701 مشاهدات 0
محمد الرميحي
العالم يتداخل بعضه مع بعض، ويؤثر طرفه سلباً أو إيجاباً فيما يفعله طرف آخر بعيد، لعل ذلك يتضح في النقاش الحاد الدائر منذ أسابيع في بريطانيا، ويستعصى عن الخروج من الأجندة الإعلامية، عنوانه العريض «تعليقات بوريس جونسون على البرقع»، فبجانب المشكلات المعقدة التي تواجه الحكومة البريطانية الحالية، مثل الخروج الصعب من الاتحاد الأوروبي، وما سوف يتركه من تأثير عميق، وربما سلبي على الاقتصاد والأمن والاستقرار البريطاني، مع اضطراب شديد في عدد من العلاقات مع الجيران الأوروبيين، ووصول الاقتصاد البريطاني إلى مفترق طرق، بعد تغير جذري في وسائل التسوق، ما يزيد الصراع في القمة السياسية، التي تشهد تشققاً في قيادة الحزب الحاكم، وهو (أي الحزب) يعتمد أصلاً على أغلبية بسيطة في البرلمان ليستمر في الحكم - تفجرت قضية البرقع (أو النقاب) لتفتح الخلاف بين مدرستين في قيادة الحزب والحكومة؛ خروج سريع من أوروبا، وخروج «ذكي» تحاوله رئيسة الوزراء.
كان من المعروف منذ أن استقال بوريس جونسون وزير الخارجية من الحكومة، في الأسبوع الثاني من شهر يوليو (تموز) الفائت، على خلفية خلاف حاد حول أفضل السبل للخروج، أن الصراع على زعامة الحزب قادمة بينه وبين رئيسة الوزراء تيريزا ماي، ولكن من غير المتوقع أن يفجر الخلاف «برقع»!
وزير الخارجية المستقيل، وعمدة لندن لسنوات، صحافي وممثل سابق، يحمل عداء ليس جديداً «للمسلمين» عبر عنه منذ زمن، وأخيراً نشر مقالاً له في جريدة «الديلي ميل» شبّه فيه لابسات النقاب، بـ«صندوق البريد» أو «سارقي البنوك». بوريس جونسون شخصية خلافية في المجتمع السياسي البريطاني، كان من ضمن قادة حملة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وهو متزوج مرتين، وله شعر كثيف يميل إلى الذهبي، حتى إنه قال في إحدى مقابلاته التلفزيونية إنه كان في نيويورك عام 2016 واشتبهت فتاة بأنه دونالد ترمب! كما أن ترمب نفسه وصل إلى بريطانيا في زيارة رسمية في شهر يوليو الماضي بعد أيام من استقالة الوزير، وعلى عكس المتبع من قواعد البروتوكول، صرح بأنه قادم للقاء صديقه بوريس جونسون!
لقد اختلط على وزير الخارجية السابق التفرقة بين العادة والعبادة في موضوع البرقع، كما اختلط على كثيرين، فخلطوا بين الإسلام وبين الشكل الخارجي لبعض النساء. مناصرو بوريس جونسون في الحزب يعتبرونه «ولي العهد» في الحزب، وأن أي تغيير قادم سوف يحمله إلى الزعامة، خاصة أنه المتحدث الأعلى صوتاً ضد الهجرة، وبشكل أكبر ضد «المسلمين» و«الأغراب»، وإن غطي ذلك التوجه بشيء من التكتيك.
المفاجأة للباحث أن الجد الأكبر لبوريس هو مسلم تركي من أصل شركسي، يدعى علي كمال بك، وقد احتفلت قرية جده في تركيا عند زيارة بوريس منذ سنوات، بذبح الخراف للحفيد الذي أصبح سياسياً بريطانياً مرموقاً. وكشخصية خلافية تورط في عدد من التصريحات في السابق، منها تصريحه حول الفتاة البريطانية التي اعتقلتها طهران منذ سنوات، على أنها جاسوسة، فصرح بأنها صحافية فقط! ما زاد من ورطتها. وكذلك تصريحه حول مدينة سرت الليبية بأن رجال الأعمال البريطانيين يمكن أن يحولوا سرت إلى «دبي»! في تعبير يحمل مضامين فصلها عن ليبيا!
تيريزا ماي يبدو أنها استفادت من التصريحات الحادة لبوريس في موضوع البرقع، كي «تتغدى به قبل أن يتعشى بها»، فوقفت ضد تصريحاته «البرقعية»، كما عنّفه عدد من كبار أعضاء حزبه.
ظاهرة الوقوف ضد الأجانب، ظاهرة تنتشر في شرايين الساسة الغربيين، تسمى عادةً «الشعبوية»، وهي تُكسب أصواتاً في الانتخابات في السنوات الأخيرة، وتصنع الزعامات في أعلى مستوى بكثير من الدول الغربية، وهي اجتماعياً لافتة أيضاً، لأن كثيراً من زعماء «الشعبوية» هم من أصول «خارجية»، فالجد الأكبر لترمب ينتمي إلى أصول ألمانية، كما ينتمي الجد الأكبر لأحد أكبر ناشطي خروج بريطانيا من السوق الأوروبية «نايجل فراج» إلى طائفة البروتستانت الفرنسيين، الذين هُجروا إلى بريطانيا نتيجة القمع الكاثوليكي! كما أن من ناشطي حزب «رابطة الشمال» الإيطالي المشارك في الحكومة مؤخراً ويتزعمه ماتيو سالفيني (المتطرف) شخص «ملون» من نيجيريا!
معركة «البرقع» كما تسميها الصحافة البريطانية تفجرت في الساحة السياسية لأكثر من سبب، فكثير من مخالفي بوريس، انتقدوه ليس بسبب رأيه في البرقع، بل بسبب «الكلمات التي اختارها للتعبير»، وهي كلمات مستفزة، وبعض الناشطين مثل آنا سوبري، عضو حزب المحافظين الصاعدة من أصول باكستانية، قالت عن التصريحات إنها «ذات رسائل مبطنة» Dog whistles، قولها ذاك يقارب الحقيقة، فعلى خلفية صراع الخروج البريطاني من السوق الأوروبية، ينقسم المجتمع البريطاني، بعد أن تبين أن الإسراع في طرح الخروج من المنظومة الاقتصادية، سوف يأتي بضرر بالغ على الاقتصاد البريطاني. والسيدة تيريزا ماي رئيسة الوزراء تطوف العواصم الأوروبية بحثاً عن مخرج من هذا المأزق وحلول وسط.
بوريس جونسون، بشخصيته المغامرة، يرغب في أن يقود حزب المحافظين للخروج الشامل والدائم ويتوسل تلك اللغة «الشعبوية» من أجل الإطاحة برئيسة الوزراء، بالتحالف مع اليمين البريطاني الذي يبدو أن شرائح واسعة منه تغادر «التقاليد البريطانية» في السياسة، والتي كانت تتوخى الحذر، إلى مناطحة مفتوحة مع شرائح ليست قليلة في المجتمع البريطاني، فلم يعد ذلك المجتمع «أبيض» كما كان في السابق، بل أصبح ملوناً، كما أصبح المهاجرون جزءاً لا يتجزأ من الاقتصاد الخدمي الحديث، وبالتالي فاستغلال خوف البيض من أن يصبحوا أقلية يستغل سياسياً.
نظرة سريعة على أبطال الرياضة البريطانية، سوف نجد أن كثيراً منهم من ذوي البشرة السمراء، وهناك دراسات تؤكد أنه خلال عقود قليلة، سوف يتغلب اللون الأسمر على اللون الأبيض في بريطانيا، وخاصة في المدن الكبرى، كما سوف يحقق الأسمر والهسبانك في الولايات المتحدة النتيجة نفسها.
البعض يذهب إلى أن بوريس جونسون ومناصريه في العلن «قليلون»، وفي السر «كثيرون» يرغبون في «اتباع سياسة ترمب» وتلوين السياسة البريطانية بها، وهنا يختلط الطموح الشخصي بإثارة أكثر المشاعر سلبية ضد الآخر المختلف.
عندما كان بوريس جونسون عمدة مدينة لندن، أدخل استخدام الدراجات الهوائية، وقد صرح بالقول إنه في بداية القرن العشرين، كان 20 في المائة يستخدمون الدراجات الهوائية، وأريد أن أعيد تلك النسبة. ثم أردف ماذا يعني أن تكون محافظاً إلا أن تعود إلى الماضي؟! العودة إلى الماضي هو ما يرتكن إليه كثير من دعاة الانعزالية في الغرب، فقد سادت مقولة أثناء التحضير للاستفتاء البريطاني للخروج من المنظومة الاقتصادية، أن الإمبراطورية الرومانية لم يسقطها إلا كثرة الغرباء! وهي مقولة ليست دقيقة تاريخياً.
وفي حال تفاقم الصراع بين الجناحين في حزب المحافظين الحاكم، مصحوباً بفشل في خروج آمن من المنظومة الأوروبية، فسوف تدخل بريطانيا في أزمة ليست سياسية فقط بل وطنية، ولن تعود بعدها كما كانت!
آخر الكلام:
هكذا يبدو الانقسام كبيراً في عدد من المجتمعات الأوروبية، وما فجره هو تلازم قضيتين؛ أوضاع اقتصادية صعبة مع هجرة قادمة غالباً من الشرق، وفوبيا متصاعدة تسمى «الإسلاموفوبيا»؛ لتتفاعل وتدفع المجتمعات إلى الانعزال والتوجه إلى سياسات يمينية، قد تضر بها في المدى المتوسط والطويل، قبل أن تضر بغيرها.
تعليقات