كانت 'درة الخليج'
زاوية الكتابأول سفير سعودي بالكويت يكتب عن ماضي الكويت وحاضرها السياسي
كتب إبريل 18, 2009, منتصف الليل 1862 مشاهدات 0
«درة الخليج»!
* بهذا الوصف كان مواطنو الخليج العربي يتحدّثون عن الكويت قبل خمسين عاماً.
لم أتبيّن، آنذاك، دواعي هذا الوصف المُتميّز الذي انفردت به الكويت دون غيرها من الإمارات العربية الأخرى.
لم أكن أعرف الكويت.
لم أكن قد جئتها من قبل.. إلى أن قضت إرادة الله أن آتي إليها لأول مرة حاملا أوراق اعتمادي سفيراً للمملكة العربية السعودية بل أول سفير تستقبله الكويت في عهد استقلالها الجديد.
كان ذلك في 28 سبتمبر (أيلول) 1961م.
كانت الكويت أول إمارة عربية خليجية تعلن استقلالها في 19 يونيو 1961م منهية بذلك معاهدة الحماية التي كانت تربطها ببريطانيا العظمى منذ عام 1899م.
لم أعرف المُبرّرات التي من أجلها اكتسبت الكويت هذا المسمى عند أهل الخليج إلا بعد أن استقرّ بي المقام وبدأت أستجلي مظاهر الحياة فيها.
كان واضحاً أن الدولة والمجتمع، كلاهما، مُنفتح على الحياة، مُقبل على الأخذ بمستجداتها، دون أن يعيق هذا التوجه عائق من مواقف التشدّد في الفكر أو العقيدة.
كانت الكويت في عام 1961م أول دولة في الخليج، وفي شبه الجزيرة العربية، يدخلها التلفزيون وتقام فيها دور سينما عامة يرتادها المواطنون بالرضى والارتياح، وتنشأ فيها حركة مسرحية على أسس مهنية راقية أشرف عليها الأستاذ زكي طليمات رائد المسرح العربي في مصر. كما كانت الفرق الاستعراضية والغنائية تدعى إلى الكويت كالمطربة فيروز وفرقة رضا المصرية للرقص الشعبي، وفرقة كاراكلا اللبنانية.
وامتزج هذا التسامح في التعامل مع الحياة باستثمار حسن لموارد النفط الذي اكتشف عام 1935م، واستهدف خير المواطنين من خلال بناء مؤسسات اجتماعية، صحية وتعليمية، مدارس ومستشفيات ومراكز رعاية وما إليها من منشآت خدمية أخرى. هذا في وقتٍ كانت فيه إمارات عربية أخرى، في الخليج العربي، لا تزال مرتبطة بمعاهدات حماية مع بريطانيا العظمى، كما كانت في وضع اقتصادي متواضع قبل أن تدركها نعمة النفط وتغيّر أحوالها.
ولعل ما في هذه الحقائق من تميز الكويت على الإمارات الأخرى كان كافياً لأن يرى فيها مواطنو الخليج العربي، في ذلك الحين، من طيب الحياة، ما يجعلها أهلا لأن توصف بـ«دُرّة الخليج».
في موازاة هذا الانفتاح في سياسة الدولة ومواقف المجتمع، كان الفكر الثقافي الوطني، والتكوين الإداري للدولة، في بداياتهما.
لم يكن يوجد في الكويت في عام 1961م صحيفة يومية واحدة. كانت هناك صحيفتان تتناوبان الصدور يوماً بعد يوم، هما جريدة الرأي العام ويرأس تحريرها السيد عبد العزيز المساعيد، رحمه الله، وأنباء الكويت ويرأس تحريرها السيد فيصل الفليج.
كما أن العديد من المراكز الإدارية التنفيذية المهمة في الدولة كان يقوم عليها فلسطينيون أكفاء. ولا بأس في ذلك في بلد ناشئ طموح لا يجد ضيراً في الاستعانة بإخوانه العرب دعماً لمسيرته وهو في عهد استقلاله الجديد.
على أن الأمر الذي استجدّ وتواصل الحديث فيه، دون أن يمهد له بتوعية إعلامية كافية هو موافقة أمير دولة الكويت الشيخ عبد الله السالم الصباح، رحمه الله، على طلب أهل الكويت الأخذ بنظام ديمقراطي يحدّد علاقة الحاكم بالمواطنين على غرار أنظمة الحكم في الغرب، وعلى نحو يتلاءم مع الأوضاع في الكويت.
كثرت التساؤلات، في حينه، خارج الكويت وداخلها، عن دواعي هذا التوجّه الجديد في الحياة السياسيّة الداخليّة في الكويت. فالعلاقة بين أسرة آل الصباح وأهل الكويت تكاد تكون، إن لم تكن بالفعل، علاقة أسرّية ليس فيها عنت أو احتقان، وليس فيها تجاوز من الحاكم على حقوق مواطنيه.
صحيح، لم يخلُ تاريخ العلاقة بين الأسرة الحاكمة وأعيان البلاد من بعض مواقف التباين في الرأي حول ما لكل طرف من الطرفين من حقوق في مواجهة الطرف الآخر، إلا أن حالة الصفاء، والإجماع على تغليب مصلحة الكويت ظلت السمة المميّزة لتلك العلاقة.
كنت أتردّد على مجلس سمو الشيخ عبد الله السالم أمير دولة الكويت، صباح كل خميس، بدعوة كريمة منه، لأجده مُحاطاً بأعيان البلاد من الأسر الكبيرة مثل النصف، والبحر، والحمد، والغانم، والعذبي، والصقر، وعبد الله رضا، والراشد وغيرهم، يتحدثون حديث الأسرة المُتماسِكَة، ويكادون يتنافسون في حبهم للكويت.
اكتشف النفط في الكويت في أواسط عام 1930م.
ليس هذا فحسب! بل تبيّن، في ما بعد، أن رمال الكويت ترقد على بحر من النفط، على خامس مخزون نفطي في العالم!
ولم تعد الكويت ذلك البلد الصحراوي الذي يعيش معظم سكانه على صيد السمك والبحث عن اللؤلؤ في أعماق البحر والمتاجرة المتواضعة بالأرزاق. فقد منحتها نعمة النفط من الأهمية والثراء ما حدا بذوي الشأن والمكانة في البلاد لأن يجتهدوا في اختيار نموذج من نماذج الحكم يضمن الشفافية والمساءلة في إدارة واستثمار موارد البلاد ويؤمن تواصل التنمية والاستقرار.
وبدا وكأن العزم كان معقوداً لأن يأتي ذلك النموذج آخذاً بنظام حكم برلماني على غرار ما جرت به الأنظمة الديمقراطية في الغرب.
فبعد أن تحقق الاستقلال لدولة الكويت في 19 يونيو عام 1961م كان هاجس الدولة وأعيان الكويت أنه لا بد من تعزيز مظاهر هذا الاستقلال بإصلاحات داخلية حديثة، وتكثيف لعلاقاتها مع العالم الخارجي. ولم يأت اختيارها لنظام برلماني في الحكم عملا تم إقراره على عجل. ويقيني أنه جاء من القيادة، ومن يواليها في القناعة والرأي، تعزيزاً فريداً لمظاهر ذلك الاستقلال. فانفراد الكويت، دون بقية الدول العربية الأخرى، بالأخذ بدستور غربي في معظم أحكامه، قد يكسبها تعاطف الغرب معها كدولة رائدة في هذا المجال لاسيما أن أزمة الكويت مع العراق كانت في ذروتها بعد أن أعلن الزعيم عبد الكريم قاسم رفض العراق الاعتراف باستقلال الكويت، وعارض انضمامها إلى جامعة الدول العربية مدعياً «أن الكويت كانت تاريخياً جزءاً من العراق».
كما كانت القوات العربية والبريطانية مرابطة على الحدود بين العراق والكويت.
في عام 1962م جرت أول انتخابات تشريعية مباشرة لاختيار أعضاء مجلس تأسيسي يعهد إليه بوضع أول دستور للبلاد.
أتت تلك الانتخابات بفئتين من أعضاء المجلس التأسيسي، فئة يمكن وصفها، تجاوزاً، بـ«الفئة التقدمية» وكان منها الدكتور أحمد الخطيب، والسيد جاسم القطامي، وعبد الرزاق الزيد الخالد، وبدر المسعود، وسليمان الحداد، ويعقوب الحميضي، وفئة أخرى تمثل الجناح التقليدي المحافظ عرفت منهم السيد نايف الدبوس، وطلال الجري، ومبارك الحساوي وغيرهم.
كما كان هناك أيضاً وجه وطني كويتي بارز من وجوه السياسة والمجتمع هو السيد عبد العزيز حمد الصقر، رحمه الله.
وكان السيد عبد اللطيف الثنيان الغانم، رحمه الله، أول رئيس للمجلس التأسيسي يحمل عبء هذه التجربة المثيرة في تاريخ الحياة الدستورية في الكويت.
لقد أتيح لي، كما أتيح للسفراء الآخرين، أن أحضر عدداً من جلسات المجلس التأسيسي ـ وقد كانت جلسات علنية ـ وأن أتابع سير المداولات فيها. كان واضحاً أن أعضاء «الفئة التقدمية» هم أكثر إحاطة بمشروع الدستور، وأفضل أداءً لدى الحديث فيه، الأمر الذي انتهى بهم لأن يكونوا الصوت الأقوى والمؤثر في مداولات المجلس التأسيسي وهو يعكف على وضع أول دستور للبلاد.
غادرت الكويت في مطلع عام 1963م لانتهاء مهمتي بتعييني أول وزير للإعلام في بلادي. على أني بقيت في تواصل دائم مع أخبار البلد الشقيق، وعلى نحو خاص مع هذه التجربة الجديدة في الحكم في شبه الجزيرة العربية وفي العالم العربي على وجه العموم.
ولما كانت هذه التجربة الديمقراطية قد جاءت، كما كان يعتقد البعض، على مجتمع لم يكن مهيأ، بعد، للأخذ بها، فقد كان تعثرها في بدايتها أمراً مفهوماً ومقبولا على السواء. إلا أن تواصل التعثر في مسيرة هذه التجربة، وما أفضى إليه من استجوابات متعاقبة للحكومة، واستبدالها بحكومات أخرى، وحل متكرر لمجلس الأمة قد استوقف الباحثين في هذه التجربة والمتابعين لمسيرتها.
حدثني مصدر كويتي مطلع، يتابع الشأن الداخلي متابعة عليمة، أنه منذ إقرار الدستور في 11 نوفمبر 1962م تعاقب على الحكم 27 وزارة، أي وزارة جديدة كل عامين! وحل مجلس الأمة 6 مرات! وأن الشيخ ناصر محمد الأحمد قد شكل خمس وزارات خلال أربعة أعوام!
إن أمراً كهذا ينبئ عن خلل في التعاطي بين مجلس الأمة ودوائر الحكم العليا في البلاد.
كان يؤخذ على إيطاليا تعاقب الحكومات فيها، ولها من ألاعيب السياسة وصراع الأحزاب ما قد يجعل من هذه الظاهرة حالة مفهومة. والكويت ليست إيطاليا. فهي بلد شعبه أسر متماسكة، والكويتيون فيه قد لا يزيدون في عددهم على سكان مدينة روما.
وكان، محتماً، أن ترتد هذه الظاهرة بتداعياتها السلبية على تواصل النمو والبناء، وإصابة العمل الحكومي بما يشبه الشلل. وليس هذا استثناءً قاصراً على الكويت، بل إنه يطال كل بلد يصبح فيه الصراع بين السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية هاجساً في الليل، وحرباً في النهار!
وربما كان معيناً، من أجل فهم أفضل لخلفية هذا التعثر في التجربة الديمقراطية الأولى في الكويت، الرجوع إلى المادة 6، والمادة 108 من الدستور.
تقول المادة 6 «إن نظام الحكم في الكويت ديمقراطي، السيادة فيه للأمة مصدر السلطات جميعاً».
وتقول المادة 108 «عضو مجلس الأمة يمثل الأمة بأسرها، ويرعى المصلحة العامة، ولا سلطان لأي هيئة عليه في المجلس أو لجانه».
قد يوحي مضمون هاتين المادتين، لدى البعض، بمفهوم «اليد العليا» المطلقة للسلطة التشريعية على السلطة التنفيذية، ولا يوحي، بالضرورة، بمفهوم التعاون بين السلطتين من أجل المصلحة العامة. فإذا كان ذلك هو الفهم الغالب في تحديد العلاقة بين السلطتين اضطربت الأمور، وساءت الأحوال، ودفع المواطنون ثمن هذا التعثر المتواصل والعجز في أداء الحكومات المتعاقبة.
وقد جاء مثل هاتين المادتين في الدساتير الأوربية إلا أن العمل بهما جاء، أيضاً، استشعاراً لضخامة المسئولية المناطة بممثلي الأمة، والنأي بهذه المسئولية عن صراعات المواقف الحزبية، أو المواقف الشخصية الضيقة.
وربما كان من الجهالة في شيء أن يعاب على دستور الكويت بعض ما ورد فيه، بمعزل عن الإشارة لمواقف التطرف والغلو في الرؤية الشخصية على حساب المصلحة العامة، لاسيما ما أتى به من أحكام يعتبرها البعض مخلة بالتوازن التقليدي الذي ساد العلاقة بين الأسرة الحاكمة وأهل الكويت. لأن الفهم السليم لطبيعة العلاقة التاريخية بين الأسرة الحاكمة والمواطنين ينتهي بنا إلى الاعتقاد أن واضعي دستور 11 نوفمبر 1962م عندما أقروا نص المادتين 6، و 108 من الدستور، قد أرادوا بهما وسيلة من وسائل التوازن في الحكم بين السلطتين التشريعية والتنفيذية في البلاد، ولم يريدوا بهما استقواءً لسلطة على سلطة أخرى، أو مصادرة لدورها في حكم البلاد.
إن استجواب الحكومات، في المجالس النيابية في الغرب، وطرح الثقة فيها، وإجبارها على الاستقالة حالة نادرة تعبر عن نشوء أزمة سياسية في الحكم لا يمكن حسمها إلا بإجراء كهذا.
كما أن حل المجالس النيابية إجراء دستوري لا تعمد إليه الدولة إلا استثناءً وكان فيه انفراج لأزمة تهدد مصالح البلاد.
ولا أذكر، خلال عملي سفيراً لبلادي في فرنسا، لمدة عشرين عاماً، إلا حالة واحدة جرى فيها حل الجمعية الوطنية. لم يكن ذلك الحل نتيجة خلافٍ بين السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية لأن الحزب الحاكم في فرنسا يجمع، في الغالب، بين رئاسة الدولة ورئاسة الوزارة في آن واحد. وقد عمد الرئيس جاك شيراك لحل الجمعية الوطنية الموالية له، وإجراء انتخابات جديدة مبكرة سعياً وراء تكوين جمعية وطنية جديدة تأتي له بأغلبية أكبر.
وفي الكويت يجد رئيس الدولة نفسه مضطراً للجوء إلى أصعب الحلول الدستورية، وأكثرها مرارة، وأبلغها دلالة على تعذر التفاهم بين مجلس الأمة ومراجع الحكم العليا في البلاد، فيعمد إلى حل المجلس والحكم مؤقتاً، بمراسيم أميرية، إلى أن ينتخب مجلس أمة آخر جديد خلال شهرين من حل المجلس السابق!
وعلى نحو ما تعاقب عليه تعدد الحكومات في الكويت «27 حكومة منذ العمل بالدستور»، وحلٍ متواصل في مجلس الأمة، وما يفضي إليه ذلك من إضرارٍ بمصالح البلاد والعباد، يظل السؤال ملحاً: هل المشكلة في الدستور، أم في أسلوب العمل بأحكام الدستور؟
وأياً كان موضع القصور في هذه التجربة الدستورية فإن إعادة النظر إليها، واستقصاء مواطن الخلل فيها، وربما، أيضاً، الإقدام على تعديل الدستور بما يحقق مصالح الوطن العليا، ليس بدعة في تاريخ الدساتير.
ولأن رئيس الدولة لا يملك، وحده، حق إجراء أي تعديل في الدستور، وأن التعديل، طبقاً للمادة 174 من الدستور، رهن بموافقة ثلثي أعضاء مجلس الأمة، فإن الوضع، إذن، يبقى على حال من الانحباس والجمود إلى أن يأذن الله له بالانفراج.
لقد تنادت، كما علمت من مصادر كويتية عليمة جديرة بالثقة، أصوات وطنية رصينة تدعو لحل دستوري لهذه الظاهرة النادرة في الديمقراطيات المستقرة، والتي شغلت الدولة والناس وتكاد تلحق الأذى بالوطن والمواطن.
إن الظروف الإقليمية المحيطة بالكويت لا تدعو إلى الارتياح.
وكم طاشت فيها العقول على نحو أذهل العقول!
وليس لهذا البلد العربي، الرائد في كثير من مجالات الفكر، والأخذ بأسباب التجديد في الحياة ـ ليس له من ضمان، بعد الله، إلا بتصميم أهله على الإمساك بالإرث التاريخي العريق الذي استقر في العلاقة بين الأسرة الحاكمة والمواطنين والاحتفاظ بوطنهم في منأى عن جهالات التنازع الطائفي، والقبلي، والمزايدات والعمل بالوكالة، لحساب الآخرين.
هذه خواطر عن بلد شقيق سعدت بالعمل فيه فأحببته، وأحببت أهله، وليست اقتحاماً بالحديث عنه في شأن من شؤونه الداخلية.
*وزير الإعلام ووزير الصحة السعودي الأسبق والأمين العام لمجلس التعاون لدول الخليج العربية سابقاً
تعليقات